خبر في الراهن العربي: وجدان يثور.. و« لغة خشبية » تنتصر!../ عبد اللطيف مهنا

الساعة 10:32 ص|28 فبراير 2011

في الراهن العربي: وجدان يثور.. و"لغة خشبية" تنتصر! عبد اللطيف مهنا

هذه اللحظة العربية التاريخية من شأنها أن تطرح الآن على الجميع في دنيا العرب سؤالها التالي بقوة، بحيث لا أحد حتى من كارهي سماعه بين ظهرانينا، ومهما حاول تهرباً أو إيهاماً لنفسه، أن ينجو من مواجهته، إن لم تأتيه الشجاعة للجهر سلباً أو إيجاباً بالإجابة عليه... ترى وأمام مثل هذا المستجد العربي المذهل، أو ما يطلق عليه الغرب الآن كارهاً "الثورة العربية الكبرى"، أوليس نحن إزاء انتصار مؤزر لما كانت تدعى في الحقبة الانحدارية العربية، التي تلفظ أنفاسها الآن، "اللغة الخشبية"، أو هذا التي كان ينعتها البعض متهكماً بـ"لغة الستينيات"، أو حنين العودة إلى "زمن الشعارات"... والرجوع المستهجن إلى الكلام عن الجماهير، و"من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر"؟!

 

إن قلنا، لا أحد، فنحن نعني ما كان حتى هذه اللحظة هو السائد، من نافذ وواهم ومستلب في ربوعنا، أو خانع مستسلم فيها لأقدار الخارج، أو دوني مدمن مستمرئ ذل التبعية لقوى الهيمنة الأجنبية وطواغيتها المحليين الوكلاء في بائد ما قبل هذه اللحظة التحول، وليس فيمن عنينا تلك القلة التي خرجت على المرحلة، وظلت تقبض على جمر قناعاتها الموصوفة بأنها "الخشبية" والتي ما انفكت تقول بروح بلالية، أحد، أحد...

 

... وإن أطلق الغرب على راهن الهبة الثورية الشعبية الطوفانية الراهنة في دنيا العرب "الثورة العربية الكبرى"، وأخاله مكرهاً لا راغباً، فلا يعني أبداً أنه يفهمها أو حتى يحاول فهمها، أو يرغب في أن يتابعها محايداً، أو قنع بأن يسلم بحقائقها، أو أنه لن يتآمر عليها ولن يحاول الالتفاف عليها وإجهاضها، أو على الأقل، أنه سيكف عن مسعاه لتقليل خسائره الناجمة قطعاً عن نتائج اندلاعها وما سيأتي به انتصارها... أو أنه غير هذا الغرب الذي عهدناه والبلا ضمير فيما يتعلق بنا، والذي يخشى الآن من انكشاف لتفاصيل لم تكشف بعد من فضائح صفقات نهبه التي عقدها مع الاستبداد، أو المحاول الآن جهده التفافاً لحماية مصالحه التي تتهددها هذه اللحظة العربية المفاجئة له ولاتباعه في بلادنا...

 

منذ اندلاع الشرارة "البوعزيزية"، وسطوع مشاعل "ميدان التحرير"، واندياح اللهيب الشعبي في جنبات الخارطة العربية من مغاربها إلى مشارقها، ومن أعماقها إلى ثغورها، ثمة الآن جدران باطل انهارت ولا من سبيل لإعادة تشييدها، وأوهام تبددت ولا من جامع لشتاتها. سقط الإحباط، وتوقفت الانكسارات، فانتعشت في مواتنا ويباسنا الآمال وحلقت الأحلام وارتفعت الرؤوس، وانتعشت النفوس، وأصبح بالإمكان الآن أن تشخص الأبصار محدقة بانتظار مطلع فجر طال غيابه... الأمة استيقظت، والإرادة التي دفنت دهراً بعثتها شرارة لحظة تاريخية لها ما بعدها... بدأت للتو حقبة الأمة المنتفضة، تراءت مجدداً حقائق الأمة ليشهد الجميع أنها واحدة الوجدان، واحدة الضمير والمصير، واحدة الأحلام والعذابات... واحدة النبض والانبعاث... وتراءى فيها كل ما يؤكد لمنكر مغرض وحدتها، هذه التي تعني سقوط إفك القطريات وتؤذن بأفول زمن الشرذمة، والجالبة معها ما يبشر بالمزيد المزيد من التوحد... من يساوره شك فما عليه إلا أن يتأمل متفحصاً جمعة المظاهرات العربية الأخيرة وشعاراتها وهتافاتها وناسها في أكثر من سبعة عواصم عربية... وإدراك ما يعنيه رفع أكثر من علم عربي يجاور الآخر فيها.

 

...إذن، انتصرت " اللغة الخشبية"، التي عبرت تجلياتها وليس سواها عن مكتوم الإرادة الجمعية لكتلة أمة غيبوها قسراً ومزقوها أشلاءاً وحدوداً وكيانات ومسميات... حدوداً عبرتها الشرارة "البوعزيزية" التونسية، وأضاءت بقاع قاصيها ودانيها مشاعل ميدان التحرير المصرية، وتسجل عنفوانها التائق للانعتاق هذه البطولات الاستشهادية المختارية الليبية... إنه التحول، وها هي متوالية الثورة الشعبية العربية الزاحفة المتنقلة تجوس هادرة دنيا العرب... تتهاوى هياكل الدونية وتتكاثر قلاع الممانعة، وتسود ثقافة الصمود والمقاومة... ما الذي يجعلنا بثقة لم نعهدها فينا نذهب الآن إلى هذا الذي ذهبنا إليه؟!

 

والجواب هو، وهل من مجادل الآن في أن ما اعترف الغرب مكرهاً بأنها "الثورة العربية الكبرى"، هذه التي بدأت للتو، أو التي لا زالت في بداياتها، قد أسقطت حتى اللحظة مقولات وأوهاماً وفزّاعات وتوصيفات وشبهات... العدمية، التطرف، الإرهاب، الأصولية، الطائفية، القبلية، الفوضى، الخراب، "الاعتدالية" الانهزامية... كشفت مخازي المستور المهتوك، وفضحت باقي عورات المفضوح، وعرّت بؤس جبروت نمور الاستبداد الورقية... هل لمس كل من تابع حراك جماهيرها في غضبتها وفي إنجازاتها، وفي كل ما بدا جلياً إبان اندياح اندلاع لهبها المقدس في هشيم مثل هذا الواقع العربي المنحدر، ما يشي ببقاء لمثل هذه المقولات والأوهام والفزاعات والمزاعم والتي ما انفكوا يبتزون شعوبنا بها؟؟!!

 

من الآن فصاعداً، لم يعد من الجائز سماع كلام من مثل، "أمريكا لن تسمح". ولم يعد مستساغاً سماع نشازات تلك الأسطوانات المشروخة المهينة من مثل، "الواقعية" و"الاعتدال" بمفهومه الغربي، وعدم القدرة على اجتياز الخطوط الحمر للمواثيق المفروضة الموقع عليها، ومعتاد التغني بالإنجازات الزائفة، وتزييف الحقائق وليّ اعناقها أو تضخيمها، أو دغدغة مشين الغرائز القطرية، أو إذكاء بائس الفتن الطائفية، وإخافتنا من "الدرس العراقي"، ومحاولة الغرب خداعنا بإحلال المطلبيات المحقة بديلاً للكرامة والحرية المفقودتين... لم يعد مقبولاً سماع عواء التثبيط وعويل إشاعة روح الإنهزامية، ودرك الاستعانة بالإسلاموفوبيا المتحفزة لاستدرار الدعم الخارجي الطامع... وصولاً إلى حكاية "الأجندة"، والدعم "الكنتاكي"، وحبوب الهلوسة الثورية!

 

لم يعد مقبولاً في بلاد العرب كل معتاد الابتزاز لتخليد بؤس القائم، أو تأبيد الاستبداد وتخليد البائد...

نعم، في دنيا العرب الآن، ثورة شعبية عربية كبرى، هي واحدة نبضاً وأسباباً وأهدافاً ودواعي، وإن تعددت الخصوصيات واختلفت الظروف لتعدد تنوّع مواقع وظروف بؤرها المندلعة... ثورة فجّرها وجدان أمة أهانوه وثلموه فانتفض ثائراً لا ينثني لاستعادة كرامة مهدورة... اليوم تنهض أمة فأخذت تمارس حقها في رفع من ضحى لرفعتها وإسقاط من أسقط إرادتها.