خبر بين الثورات الواقعية والثورات المتخيّلة../ ماجد كيالي

الساعة 02:44 م|12 فبراير 2011

بين الثورات الواقعية والثورات المتخيّلة ماجد كيالي

شكّلت ثورة شعب مصر مفاجأة كاملة، للنظام وللأحزاب السياسية فيها، كما للنظم العربية، وللدول الكبرى، وضمن ذلك فهي فاجأت إسرائيل. لكن هذه الثورة شكلت، أيضا، مفاجأة للنخب، العاملة في السياسة، في مصر وفي العالم العربي، التي أخذت، هي أيضا، على حين غرّة، ومن حيث لا تحتسب.

 

إذن، فقد حصل ماحصل، وفاجأت هذه الثورة الجميع، داخل مصر وخارجها، حتى إنها ربما فاجأت الشباب الذين أطلقوا شرارتها، والذين لم يعرفوا أن الصرخة التي أطلقوها، من أجل الحرية والكرامة، قد تقلب الأوضاع رأسا على عقب، أو قد تخلخل الأوضاع الراكدة في مصر، وربما في مجمل العالم العربي، أيضا.

 

أما المفاجأة الكاملة في هذه الثورة فتمثلت في أنها لم تأت بالطرق المعهودة، كتلك التي عرفتها عديد من ثورات العالم، من الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية، وأنها اختطت طريقها الخاص، والمغاير، في هذه التجربة التاريخية.

 

ويبدو أن هذا الوضع المختلف أربك تحليلات ويقينيات عديد من المنظّرين، و"المحللين الاستراتيجيين" عندنا، من الذين اعتادوا على التنميط والتصنيف، ومن الذين طالما استسهلوا إطلاق الوصفات الأيدلوجية والثورية في الفضائيات العربية.

 

ومثلا، ثمة من هؤلاء من انشغل بتحميل هذه الثورة شعارات سياسية، لم تطرحها البتة (دون أن يعني ذلك إنها بعيدة عنها)، معتبرا أن هذه الثورة جاءت لإعادة مصر للصف العربي ولدورها في الصراع ضد إسرائيل، وثمة من رأى أن هذه الثورة جاءت لتعيد لمصر هويتها العربية، لكأنها أضاعت هويتها، أو لكأن واقع التسلط والظلم والفساد المقيم منذ عقود في معظم البلدان العربية، لايفسّر الثورة، ولا يكفي لإطلاقها!

 

وثمة من هؤلاء من ذهب، في فورة حماسه، وإسقاط رغباته، إلى حد وضع جداول عمل للمجتمعين في ميدان التحرير، مطالبا إياهم بالتحرك السريع، ومغادرة الميدان إلى قصر الرئاسة مثلا، دون أن يتمعّنوا في الدلالات الخطيرة لذلك، والتي من ضمنها الدخول في مواجهات غير محسوبة، مع الجيش، أو مع الحرس الجمهوري (على الأقل)، وفي وقت كانت فيه الثورة بحاجة ماسة لمزيد من التوسع (الأفقي والعمودي)، لاكتساب قطاعات جديدة من الشعب المصري. وكان الأحرى بهؤلاء الاشتغال على تحليل طبيعة هذه الثورة وقواها المحركة، وآليات عملها، وكيفية توسيعها لمجالها العام، على حساب مجال النظام، أو بمعنى أخر كان حري بهم التعلّم من الشعب المصري، بدل تعليمهم أو التنظير عليهم.

 

ومن تتبع مسار الانتفاضة/الثورة، التي يخوضها شعب مصر، يمكن ملاحظة أن هذه الثورة المجيدة، التي بدأتها مجموعات من الشباب، اتسعت لتشمل مختلف أطياف الشعب المصري، على تباين أوضاعهم الاجتماعية، واختلاف خلفياتهم السياسية والعقائدية، وفئاتهم العمرية.

 

كما يمكن ملاحظة كيف أن هذه الثورة جاءت، وتطورت، بطريقة جد عفوية وسلسة، فهي لم تكن منظمة، ولم يعرف أن وراءها أي إطار تنظيمي (لا حزبي ولا جبهوي)، وحتى أنه ليس ثمة قيادة محددة لها، حيث لايوجد لها لا زعيم، ولا قائد سياسي ولا مفكر، يوجهها. ومنذ البداية عبّرت هذه الثورة، بكل جلاء، عن طابعها السلمي الخالص، حيث أنها لم تتعمد إطلاق أية شحنة عنف، ولم تقم بتوليد أية ردة فعل، على أي فعل عنيف من قبل السلطة (إذا استثنينا محاولات الدفاع عن النفس في مواجهة ميلشيا السلطة من البلطجية). كما يمكن ملاحظة أن هذه الثورة كانت واضحة في طرح هدفها، الذي يتمثل، بكل بساطة، بتغيير النظام (لا إسقاط الدولة)، لأن هذه العبارة تتضمن التخلص، مرة واحدة، من واقع التسلط والفساد، وهدر الحقوق وتقييد الحريات. وفوق كل ذلك فإن هذه الثورة تجنّبت، أو تجاوزت، الشعارات والأيدلوجيات الجاهزة والمنمطة، وهذا هو سر نجاحها في تحولها إلى ثورة لكل الشعب.

 

وكما شهدنا فقد باتت ثورة شعب مصر، بفضل مساراتها الهادئة والمتزنة، بمثابة مدرسة سياسية، استطاعت، في أيام قليلة، أن تثقّف قطاعات واسعة من شعب مصر (ومعه الشعوب العربية) بالعلوم السياسية ما يمكن تعلّمه في عقود من الزمن، بل إن هذه الثورة (وقبلها انتفاضة شعب تونس) أحضرت الشعب إلى السياسة، بعد طول غياب، وعلمته كيف يكون شعبا. ومثلا، فهي بعد أن كانت مجرد حركة عفوية، تتوخى وضع حد للظلم والتسلط والتهميش، الواقع على شعب مصر، إذا بها تتحول إلى حركة سياسية معنية بتقديم إجابات واضحة ومحددة عن مسائل الشرعية والدستور والانتخابات.

 

وقد شهدنا، أيضا، بأن هذه الثورة استطاعت أن تبني أدواتها ومنهجها شيئا فشيئا، وأنها بطول نفسها استطاعت أن تقوّض بالتدريج شرعية السلطة، وأن تفرض شرعية مطلبها بالتغيير، عند الشعب، وعند مكوّنات النظام، أيضا. وهذه مسألة جد مهمة، كون ثورة مصر لم تذهب، أو لم تنحرف، نحو الابتزال المتمثل بالقول ب"الشرعية الثورية"؛ وهي الشرعية التي علمتنا التجارب أنها تقضم، وتقوض، وإن لاحقا، شرعية الدولة والثورة ذاتها.

 

هكذا بتنا نسمع ونرى شباب "ميدان التحرير" يختبرون السياسة، التي طالما عزفوا عنها، مضطرين. وقد عبر أحد هؤلاء الشباب عن هذا الموقف، المفارقة، بقوله "إحنا مالناش دعوى بالسياسة"، إحنا بس عايزين نغيّر النظام.. كفاية بقى.. كفاية قهر وظلم.. وبعدين لاقينا حالنا في قلب السياسة"!

 

وقد يصحّ الاستنتاج بأن هذه العفوية بالذات هي التي حمت انتفاضة شعب مصر، لماذا؟ لأنها لم تذهب من البداية لا إلى الفعل العنيف، ولا حتى إلى اللغة العنيفة، خذ مثلا تعبيرات "إحنا مش حنمشي إلا لما يمشي".. وهذا شاب يرفع لافتة مكتوب عليها "روح بقى وجعتني ايدي". وذاك يكتب على بطنه عبارة "عاوز حقي". وخذ مثلا الشاب وائل غنيم، الذي بات من رموز هذه الثورة، والذي قال في الفضائيات، بعد الإفراج عنه "ياجماعة أنا مش بطل ولاحاجة، أنا إنسان عادي، أنا بس عاوز يمشي النظام"؛ وهكذا.

 

ولعل هذه الطريقة السلمية والهادئة والمتواضعة بالذات في التعبير عن الثورة هي التي أربكت النظام، وحيّدت الجيش، وشجّعت قطاعات واسعة من المصريين للانتقال إلى جانب الشباب.

 

على ذلك فإن الثورة المصرية هي ثورة شعبية بمعنى الكلمة، بقواها المحركة وطريقة عملها وشعاراتها، بغض النظر عن مآلاتها وحدودها، فالثورات يمكن تنكسر، أو أن تنحسر، مثلما يمكن أن تنتصر، بأن تحقق أهدافها كليا وجزئيا، دفعة واحدة أو على مراحل.

 

وما يحدث في مصر هو حقا بمثابة ثورة، بالإذن من مقولات ماركس وانجلز ولينين، عن ثورات البروليتاريا، و"العنف الثوري" و"قابلة التاريخ"، وعن أن الثورات تحتاج إلى حزب أو إلى طليعة ثورية. وما يحدث هو ثورة شعب، على الرغم من أن هذه الثورة جاءت على عكس تخيّلات وتوهمات وتحليلات كثير من "المنظرين" عندنا، الذين تنتابهم "حمّى" الثورية في لحظات معينة، وفي أماكن معينة، فقط.

 

حقا، إنها ثورة شعب مصر، ومصر تخط طريقها الخاص نحو المستقبل ونحو دولة المواطنين، والبقية تأتي.