خبر مصر، قصة حب .. هآرتس

الساعة 09:28 ص|11 فبراير 2011

بقلم: جدعون ليفي

(المضمون: ذكريات تثيرها الأحداث الاخيرة من زيارات سابقة للكاتب جدعون ليفي الى مصر - المصدر).

        آنذاك ايضا وُجدت قوات جيش طوقت مبنى التلفزيون. كان المبنى الكبير، نصف الدائري، مثل قوس زرقاء على ضفة النيل، مطوقا بمراكز الجنود، متحصنين من وراء أكياس الرمل التي ارتفعت الى أعلى، وبنادقهم ذات النصال في أيديهم وعلى أجسادهم بزات الصوف الخشن الاسود. بيّنوا لنا في أواخر عصر الثورات السابق في العالم العربي، إذ كانت تقع ثورة كل عشر سنين، انها اذا حدثت في مصر، فستبدأ هنا في هذه الاستوديوهات.

        هذا الاسبوع طوق مرة اخرى المبنى الذي لم ترمم واجهته منذ ذلك الحين. وقد حلت الدبابات التي يشبه لونها لون الرمل محل أكياس الرمل. آنذاك حماه الجنود من معارضي السلام مع اسرائيل الذي كان قريبا، وبعد ذلك بـ 34 سنة أصبحوا يحمونه من الثورة التي قد تفضي الى نهاية السلام ذاك. كتب إلي ص. ج وهو من اصدقاء طفولتي هذا الاسبوع بالبريد الالكتروني: "أتسافر الى مصر لاغلاق الدائرة؟ كنت الاول، وستكون الآن من يطفيء النور".

        لم يستطع الصحفيون الاسرائيليون الذين لا يملكون جوازات سفر اجنبية الهبوط في مصر هذا الاسبوع، كي يحطموا فيها تحطيما صحفيا لمن يشتهي أن يكون هناك، الآن خاصة. بقيت مع المشاهدة المتواصلة تقريبا ليل نهار، ببث "الجزيرة" بالانجليزية وهي أفضل شبكة دولية لذلك (الى أن قُيدت خطواتها على أيدي السلطات)، مع تقارير مباشرة، ومن غير مجموعة محللينا الامنيين، ومع الذكريات الرائعة، والاشخاص والمختصين الذين طفوا هذا الاسبوع مرة اخرى بكامل قوتهم.

        مصر، قصة حب؛ قصة عن الحب والظلام، كما يُسمى كتاب عاموس عوز، الذي لاحظت في زيارتي الاخيرة الى مصر قبل سنة بالضبط أن نسخة منه استعارها قاريء مصري، في المكتبة العامة المجهزة الجديدة في الاسكندرية. كان هذا حبا من النظرة الاولى. فمثل الشاعر محمود درويش، الذي تأثر في مطلع السبعينيات بالقاهرة، وهي أول مدينة زارها في حياته جميع اللافتات فيها (والحكام) بالعربية، تأثرت منها أنا الصغير ايضا، الاسرائيلي – اليهودي الذي نشأ على اعتقاد ان مصر تقع عندنا، مثل جميع الدول العربية آنذاك، وراء جبال الظلام؛ وقد أحرقنا دمية طاغيتها كما سميناه آنذاك، جمال عبد الناصر في أعياد "لاغ بعومر".  قبل اسابيع من زيارتي الاولى تلك، التقيت صحفيا المانيا جاء من القاهرة مباشرة، وقلت له آنذاك في حسد ظاهر: "لن استطيع أبدا زيارة مصر"؛ وبعد ذلك بزمن قصير هبط في القاهرة تحت جنح الظلام.

        كانت الزيارة الاولى، مع الاسرائيليين الأوائل الذين زاروا مصر في كانون الاول 1977، هي البعثة الصحفية العاصفة في حياتي. ويبدو أن لا شيء سيشبهها. لا شيء يشبه الزيارة الاولى لدولة عربية، بعد سنوات الظلام تلك كلها؛ ولن يشبه شيء الزيارة الغامضة تلك لفندق "المينا هاوس"، عندما فتحت الستار في غرفتي وانتصب ازاء ناظري الأهرام بكامل عظمتها.

        ولن يشبه شيء الليلة التي تسللنا فيها من الفندق خوفا من حراسنا، وسافرنا الى المدينة لنشاهد عجائب ليلها. ولن يشبه شيء تحطيم جميع الاساطير والمعلومات المشوشة التي غُسلت أدمغتنا الصغيرة بها، ازاء اللقاء المباشر مع مصر وسكانها. يحدث هذا مرة واحدة في الحياة، وقد حدث في شتاء 1977، الذي آمنا فيه للحظة بأن السلاح بلغ النهاية وانه لن تقع حروب بعد ولا سفك دماء بعد. منذ ذلك الحين زرت مصر عددا لا يحصى من المرات، وأنا أحرص دائما على انهاء الزيارة بالجين تونيك في مشرب المينا هاوس، لأتذكر أول جين تونيك عربي لي في الفندق المتعدد الالوان.

        زرت هناك ذات مرة بمصاحبة نجمة تلفاز اسرائيلية، وأدهشني أن عرفها مدير الفندق المصري الذي كان يشاهد القناة الثانية آنذاك مثلنا. أصبحت مصر فجأة الجارة الطيبة وراء الباب. وأصبح يُخيل إلينا للحظة مع موجة السياح الاسرائيليين الجمعية التي زارت سوق خان الخليلي في القاهرة أن الحلم الكبير أصبح واقعا. ومنذ ذلك الحين أخذ الحلم يُمزق وقد يُمزق الآن نهائيا والعياذ بالله. أرومانسية بقرش؟ أستشراق بفلس؟ ليس فقط.

        أنظر الآن في بطاقتي الصحفية المصرية من 1977. ما زالت الى اليوم معلقة في جدار غرفة عملي، تذكارا أبديا بتلك الايام. لكن هذا الأبد كان قصيرا، قصيرا جدا، ومع ذلك كله فان حبي الخاص مستمر حتى اليوم. لست خبيرا بمصر مثل اهود يعاري، ولست فأر مشارب وحوانيت كتب مصرية مثل بيني سيفر، لكنني أحب مصر، واتأثر وأهتاج في كل زيارة من جديد، ويصعب أن أُبين شيئا ما لماذا لمن لم يكن في مصر.

        جئتها من البر والجو والبحر. كانت الرحلات الجذابة في الحافلة التي اعتادت الخروج عند الصباح من وكالة السفر في شارع ابن غبيرول في زاوية شارع بازل في تل ابيب، تجتاز عند الظهر قناة السويس وتنزلني بعد الظهر في "هلتون النيل" عند ميدان التحرير المُتحدث عنه، المغلق الآن من اجل اعمال الترميم، قبل أن يصبح "نيل ريتس كاريلتون"، ربما في السادسة بعد الثورة. وكانت رحلات ليلية مباشرة الى القاهرة، ورحلات عن طريق عمان وأثينا، بل كان إبحار واحد في سفينة كازينو من جميع السفن، شقت طريقها مع عشرات المقامرين الاسرائيليين من أسدود الى ايلات عن طريق القناة واشتمل ذلك على رسو بَيْني في بور سعيد وعلى زيارة للقاهرة ايضا. وكانت مؤتمرات سلام في الشيراتون والهلتون، ومؤتمرات تفاوض في مصر الجديدة والجزيرة، وفي المعادي والزمالك، وبعثات صحفية في ايام السنة للسلام والحرب، ومحادثات ليلية مع ساسة مصريين ودبلوماسيين عرب، ولقاءات محظورة مع فلسطينيين بل زيارة لعرض فيفي عبده المدهش، أكبر راقصات الرقص الشرقي في جميع الازمان، التي كانت تصعد الى المنصة في حوالي الرابعة قُبيل الصبح في المقهى الليلي للهلتون وتصيب الجميع بالدوار. تذكرت هذا الاسبوع كل ذلك.

        تذكرت مثلا زيارتي الى مكتب نائب وزير الخارجية المصري، الدكتور اسامة الباز، قبل عشرين سنة بالضبط، في قصره الصغير عند طرف ميدان التحرير، عند نهاية حرب الخليج الاولى. توسل الباز آنذاك مثل جميع المصريين الذين حادثوني أن تجد اسرائيل في نهاية الامر حلا للمشكلة الفلسطينية؛ ولم يحدث شيء آنذاك كما هو الآن. ومع انتهاء اللقاء خرجنا ثلاثة الى الميدان المظلم المزدحم: السفير الأبدي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، سعد كمال، والباز وأنا. انتظرت كمال سيارة مرسيدس سوداء قوية مع سائق، ودخل الباز سيارة فيات صغيرة من انتاج مصر بلا سائق مقترحا أخذي في سيارته الى فندقي.

        نقل الباز سيارة المرسيدس 500 التي وهبها صدام حسين له على أنها هبة صغيرة من صديق كبير، الى خدمة وزارة الخارجية كما حدثني آنذاك. وهذا ما كتبته آنذاك، في آذار 1991 من ميدان التحرير: "يُسمع من المسجد قبالتي بالضبط صوت المؤذن بضجيج يصم الآذان: الله أكبر. وردد الجنود ذوو البنادق ذات النصال عند مقدمة القصر: الله أكبر. كان الكثير من الناس آنذاك في الميدان. وقد جمع بائعو البطاطا الحمراء المشوية بقرش مالا بحسب اعتبارهم. وكان القليلون في الميدان الضخم يهمهم ما يحدث في القصر عند زاوية الميدان...".

        بعد ذلك بعشرين سنة، فعل نفق الزمان فعله: فقد حُفر نفق القطار الارضي في القاهرة منذ زمن تحت الميدان، الذي وقف فيه الجماهير هذا الاسبوع، وأصبح يهمهم جدا ما يحدث في القصر عند زاوية الميدان، كما في قصور السلطة كلها.

        في تلك الزيارة 1991 التقيت في القاهرة السفير المصري في واشنطن المتقاعد، تحسين بشير، الذي أصبح بعد ذلك الناطق باسم أنور السادات، والذي حدثني عن أحاديثه مع مارتن بوبر، والبرت آينشتاين، وحانه آرنت، وناحوم غولدمان صديقه. كان من السهل آنذاك على صحفي اسرائيلي أن يلتقي النخبة المصرية. فتح لي رئيس المحكمة العليا في القاهرة، القاضي سعيد العشماوي، باب بيته في حي الزمالك يرتدي بيجامة تختفي وراء عباءة حريرية. والى أن لبس القاضي ملابسه، كنت قد عددت عشرين جرة قديمة، ونحوا من ثلاثين تمثالا خزفيا لحيوانات في الأساس، وخمسين صورة وطبقا على الجدران واشياء اخرى قديمة، وكل ذلك في إيوان صغير واحد مزدحم صارخ.

        قال لي مستشار الرئيس حسني مبارك الاعلامي، محمد عبد المنعم، آنذاك في مكتبه: "تعلم الناس في هذه الازمة (حرب الخليج) أي زعيم هو مبارك. كم هو مصمم واخلاقي وشجاع، وكم هو ذو خلق ومباديء. هذه هي الصورة الآن بعد الحرب للرئيس في نظر أبناء الشعب المصري". هذا ما قاله آنذاك المستشار الاعلامي. وكانت اياما لن تعود بعد.

        وقد لا تعود ايضا الايام التي حاولت فيها صحيفة "هآرتس" أن يكون لها مراسل دائم في القاهرة. قضى يورام همزراحي الذي توفي في المدة الاخيرة بعيدا عن أنظار الجميع في كندا، شهورا وحده في فندق يجري عبثا في خفايا البيروقراطية المصرية في محاولة يائسة ليُحصل بطاقة صحفي وشقة للايجار. صاحبته آنذاك. ذات ليلة التقينا في كافتيريا الهلتون، على طبق "أم علي"، وهي الحلوى المصرية البسيطة اللذيذة، مع واحد من مستشاري ياسر عرفات الكبار. كانت تلك الايام هي ايام حظر اللقاءات مع اشخاص من م.ت.ف وأعلنت أنا وهمزراحي اللقاء الذي استمر حتى طلوع الصباح، اعلانا صارخا باعتباره "حفلا صحفيا دوليا"، وكان هذا هو الاطار الوحيد الذي يجوز لاسرائيلي أن يلتقي فيه المخربين من م.ت.ف دون أن يخالف القانون الاسرائيلي المتنور.

        أخذني همزراحي ايضا للمرة الاولى الى سوق الجمال في القاهرة. وثمة آلاف البهائم مع ركابها تسير على قوائمها طوال الطريق من صحارى السودان وليبيا، الى سوق صارخة مدهشة. قبل سنة، في زيارتي الاخيرة لمصر، ذهبت مرة اخرى الى سوق الجمال المدهشة هذه، التي نُقلت في هذه الاثناء الى القرية البعيدة بركاش. وهذا ما كتبته هنا في شباط من العام الماضي، بعد الزيارة الاخيرة: "التوصية لا لبس فيها: القاهرة. دعوكم من زيارة اخرى لباريس، وانسوا رحلة اخرى تسوقية الى نيويورك، فالرحلة مع الحقائب ايضا في مصر لا تقل جاذبية عن الرحلة الى ارض النار أو شواطيء غاوه. إهبطوا مصر".

        لم يتغير ايضا "فلفلة" و"غروبي" تقريبا. وربما تغيرا في الحقيقة. في "غروبي"، وهو المقهى القديم في القاهرة، ما يزال النُدُل الشيوخ يقدمون الشاي والقهوة، على نفس الكراسي والموائد المنضدة، كما كان الامر في الايام التي خدم فيها عيزر وايزمن في الجيش البريطاني وزار هذا المقهى، وعاد اليه مرة مع مجيء السلام. قبل سنة رأيت فيه نساء منقبات يلبسن السواد، رفعن النُقب والقفازات للحس البوظة وللكلام. هذا الاسبوع ازدحم الجماهير في ميدان "غروبي" وأُغلقت أبواب المقهى، ربما لاول مرة في عشرات سنوات وجوده. تغير مطعم "فلفلة" أكثر عن المرة الاولى التي كنت فيها فيه. جئت اليه من توصية من اهود يعاري في مرشده السياحي القديم الى مصر. تحول المطعم المحلي الضئيل على مرور السنين الى مطعم سياح مزدحم، وما يزال لذيذا ورخيصا، لكن أشك أن يكونوا قدموا فيه هذا الاسبوع المأكولات البيتية، والحمام المحشو، والفول وكبد الدجاج على الفحم.

هكذا شاهدت وشاهدت هذا الاسبوع البرامج المذاعة من القاهرة في تهيج، فكل ميدان يحمل ذكرى، وكل شارع يثير ذكرى حلوة. خطوت فوق جسر "6 اكتوبر" وهو جسر النضال الشعبي الكبير هذا الاسبوع قبل سنة بالضبط في الطريق لاحتساء كأس عصير المانجا، معصورا طازجا، في حديقة فندق الماريوت في حي الزمالك، يوم السبت بعد الظهر مع سطوع الشمس، ومع العبير المصري والجو البرجوازي الساحر الذي اعتقدت آنذاك أن يستمر الى الأبد.