خبر « الجزيرة » العربيّة.. و« العربيّة » المتسعودة../ زهير أندراوس

الساعة 02:26 م|09 فبراير 2011

"الجزيرة" العربيّة.. و"العربيّة" المتسعودة زهير أندراوس

 

1) قبل يومين من هروب الديكتاتور التونسي، زين العابدين بن علي، إلى المملكة العربيّة السعودية، التي نخشى أنْ تتحوّل إلى مزبلة للديكتاتوريين والمستبدين، استضافت فضائية الجزيرة القطريّة، وزير التعليم العالي في تونس، وذلك خلال برنامج حصاد اليوم. الوزير، كسائر أركان النظام البائد، تبنى النظريّة القائلة إنّ الهجوم هو أحسن وسيلة للدفاع، وحاول استغلال المناسبة لتصفية الحسابات مع الفضائية ومع الشعب التونسي الثائر. مقدّم البرنامج، الصحافي الفلسطينيّ الأصل، جمال ريّان، كان له بالمرصاد، قطع أقواله ووجه له رسالة واضحة لا لبس فيها: سيّدي الوزير، قال المذيع، عليك أنْ تعلم أنّ ستين مليون عربيًا من جميع أرجاء العالم يتابعون هذا البرنامج، سألتك سؤالاً عن إغلاق الجامعات، وأطلب منك الرد على سؤالي بدون لفٍ أوْ دوران، الوزير علم أنّ المعركة، إذا جاز التعبير، خاسرة مع الفضائيّة، التي تحولّت، شاء من شاء وأبى من أبى إلى لاعب مركزيّ، إنّ لم يكن أكثر، في العالم العربي على جميع الأصعدة وفي كافة المجالات، علم أنّ المعركة خاسرة وبدأ بالرد على الأسئلة مباشرة، النتيجة كانت أنّ عشرات الملايين من الناطقين بالضاد علموا وفهموا أنّ الإنسان التونسيّ في طريقه إلى الحريّة والتخلص من نظام السلب والنهب والاستبداد.

 

2) نسوق هذه الحادثة على وقع قرار النظام الحاكم أو غير الحاكم في مصر، نظام مبارك الشرعي أوْ بالأحرى غير الشرعي، الجاثم على قلوب الشعب المصريّ العظيم منذ ثلاثين عامًا ونيّف، القرار القاضي بمنع الفضائيّة القطريّة من البث وإغلاق مكاتبها وسحب اعتماد مراسليها، هذا القرار الذي لا يمت إلى الديمقراطية بصلة، لا من قريب ولا من بعيد. حتى في أيامه الأخيرة، يحاول نظام حسني مبارك أنْ يكون كاثوليكيًا أكثر من البابا، وصهيونيًا أكثر من هرتسل، يمنع فضائية عربيّة حرّة ومستقلة من نقل الوقائع لحظة بلحظة، وفي نفس الوقت يسمح للصحافيين الإسرائيليين بدخول مصر، والبث مباشرة من القاهرة، عاصمة بلاد النيل، الإسرائيليون يكتبون التقارير المنحازة للنظام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، يخلطون الحابل بالنابل، ويتجولون بكل حريّة، يصولون ويجولون في مصر الكنانة بدون حسيبٍ أوْ رقيبٍ، هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي انتفضت الشعوب العربيّة ضدّه، هذا هو الشرق الأوسط الجديد، الذي ثارت ضدّه الشعوب العربيّة المسحوقة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، هذا هو الشرق الأوسط البائد، الذي يُعامل فيه الإسرائيلي الذي اغتصب فلسطين من قبل الأنظمة العربيّة الدكتاتوريّة وكأنّه المسيح المنتظر، في حين يُقمع المواطن العربيّ على أرضه وفي وطنه من أجل إرضاء أمريكا والدولة العبريّة.

 

3) يجب القول الفصل إنّ فضائيّة الجزيرة تحوّلت إلى لاعب أكثر من مركزيّ في تحديد الأجندة السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة في الوطن العربيّ من محيطه الثائر إلى خليجه النابض: القوة، الجرأة، الموضوعيّة، التغطية من كل مكانٍ وإلى كل مكانٍ، الانتشار الواسع لشبكة المراسلين، البث الحيّ والمباشر، والمفاهيم الجديدة التي أدخلتها الجزيرة إلى عالم الإعلام العربيّ، جميع هذه العوامل وعوامل أخرى لا مكان للتطرق إليها في هذه العجالة، حوّلت الفضائية القطريّة إلى قوةٍ خارقةٍ تقض مضاجع الحكام العرب، الذين أدمنوا على قمع شعوبهم، واشتروا الأسلحة لقتل المتظاهرين، وأحيانًا استعملوه للاستعراضات العسكريّة، لا بل أكثر من ذلك، زعماء من الغرب ذوتوا الفكرة بأنّ توجيه الرسائل للعالم العربيّ يتم فقط عن طريق الجزيرة، ووصلوا إلى المقابلات الجريئة، وردّوا على الأسئلة، التي وُجهت لهم بنديّةٍ ومهنيّةٍ نتعز ونفتخر فيها.

 

4) قبل انطلاق الجزيرة في العام 1996 كان الإعلام العربيّ رسميًّا، مثيرًا للشفقة، وركّز على أخبار الحاكم، أوْ بكلمات أخرى، كان الإعلام العربيّ إعلامًا يعمل في خدمة النظام وتأليه الزعيم، ولكنّ الجزيرة غيّرت المفاهيم من اليسار إلى اليمين، والعكس أيضًا صحيح، وكالعادة حاولت الأنظمة الرجعيّة العربيّة محاربة الجزيرة، وقال أشباه الكتبة وأشباه المفكرين في العالم العربيّ إنّه من غير المعقول أنْ تقوم الجزيرة بالتحريض الأرعن ضدّهم، وبتأليب الرأي العام ضدّهم، وفي نفس الوقت تستضيف قطر، أصغر دولة عربيّة، أكبر قاعدة عسكريّة أمريكيّة في الشرق الأوسط. وفي خطوة جريئة للغاية، استضاف د. أحمد منصور، معد ومقدّم برنامج (بلا حدود) رئيس الوزراء القطريّ ووجّه له الأسئلة الصعبة، منها حول القاعدة الأمريكيّة، رئيس الوزراء أجاب بصراحة، يفتقر إليها العالم العربيّ، وقال في ما قال: نعم، نحن نستضيف القاعدة الأمريكيّة، علاقاتنا مع أمريكا ومع إسرائيل علنيّة، ولا نخفي شيئًا، كنت أتمنى، تابع المسؤول القطري، أنْ تحذو الدول العربيّة الأخرى حذو قطر، وتتخذ من الشفافية نبراسًا تهتدي به، في إشارة واضحة إلى عدد من الدول العربيّة التي تهاجم إسرائيل في الفضائيات وتقيم معها علاقات طيبّة في الخفاء.

 

5) الحق، الحق أقول لكم، قال السيّد المسيح عليه السلام، وها نحن نردد ونقول بدون لبس: الفضائيّة القطريّة كشفت خبايا وخفايا العالم العربيّ، تحوّلت إلى الفضائية التي تعكس آلام وآمال الشعوب العربيّة، باتت صوت الذين لا صوت لهم، نسبة المشاهدين ارتفعت بشكلٍ لم يتوقعه الكثيرون من الاختصاصيين، وجاء الرد السعودي بتأسيس فضائيّة (العربيّة) لتلعب دور الفضائية المعتدلة، ولتكون نسخة عصريّة من الإعلام العربيّ السلطوي، ولكنّ الرياح لا تجري كما تشتهي سفن الإمبرياليّة وقوارب عملاء الكولونياليّة، الفشل كان من نصيب العربيّة، التي تتصرف بعكس اسمها: وكانت الفضيحة الكبرى للعربيّة خلال العدوان البربريّ، الذي شنته دولة الاحتلال ضدّ قطاع غزة في شتاء 2008 و2009، الجزيرة نقلت إلى العالم الجرائم الإسرائيلية التي اقترفها الاحتلال ببث حيّ ومباشر، وقام مراسلوها ومقدمو برامجها بذكر أعداد الشهداء، الذين انضموا إلى قافلة شهداء فلسطين على مدار الساعة، بموازاة ذلك، كانت العربية المتسعودة، تُطلق على الشهداء اسم قتلى، وهنا بيت القصيد، وهذا مربط الفرس: الجزيرة كانت متحيزّة للشعب الذي كان يتعرض لإحدى أبشع عمليات القتل، في حين كانت العربيّة ملتزمة بالرواية الإسرائيليّة، الممهورة بتوقيع من الأنظمة العربيّة المتواطئة والمتخاذلة، وباعتقادنا المتواضع جدًا، كان العدوان على غزة القشة التي قصمت ظهر البعير، وكشفت النقاب عن أنّ العربيّة، فعلاً عربيّة الأنظمة البائدة، أوْ الأنظمة التي تشق طريقها إلى الفناء، أوْ إلى مزبلة التاريخ.

 

6) الجزيرة أوضحت للعالم العربيّ عن طريق برامجها ونشراتها الإخباريّة ماذا يدور في الداخل الفلسطينيّ، كشفت له عن الغبن اللاحق بفلسطينيي العام 1948، القابضون على الجمر، الذين يعيشون في الدولة العبرية، وخلال السنوات التي مضت طرأ تحولاً كبيرًا على فهم الشعوب العربيّة للجزء المرابط على أرض فلسطين، وتلاشت تقريبًا الفكرة التي كانت سائدة لدى قطاعات واسعة من أبناء الأمّة العربيّة بأنّ عرب الـ48 هم عملاء لإسرائيل، وهذه النقلة النوعية، لما كانت لتحدث لولا رؤية الجزيرة الملتزمة لقضايا العرب أينما كانوا.

 

7) أمّا بالنسبة لفضائح سلطة خماسيّة رام الله: عبّاس، فيّاض، عريقات، قريع وعبد ربه، فنقترح على عصابة الشوشرة والمزايدة والنفاق والرياء من طرفي ما يُطلق عليه الخط الأخضر الامتناع عن مهاجمة الجزيرة، التي فضحت بالوثائق والحقائق الدامغة أنّ سَلَطة رام الله كانت وما زالت أكرم من حاتم الطائي في التنازلات لدولة الاحتلال، نقترح على هؤلاء المأجورين التروي وعدم التسرع في إطلاق التصريحات الناريّة التي تخدم الاحتلال الإسرائيلي وزبانيته.

 

8) وكلمة حق يراد بها الحق، والحق فقط: كاتب هذه السطور كإنسان وكعربيّ وكفلسطينيّ وكتّواق للسلام وكمؤيد لحقوق الإنسان، كل إنسان على وجه هذه البسيطة، لا يمكنه أنْ يتصور ماذا كان سيجري لنا وبنا، نحن أبناء الأمّة العربيّة، بدون فضائية الجزيرة، التي تحوّلت بصدقٍ وأمانةٍ إلى ضيفٍ مرغوبٍ فيه في بيوتنا، الشعوب العربيّة التي اجتازت حاجز الخوف من الأنظمة العربيّة المستبدة، فعلت ذلك، بدعمٍ مطلقٍ من الجزيرة، التي أصبحت صوت المُستضعفين على الأرض.

 

(ملاحظة: كاتب المقال ممنوع من دخول مصر، بأيّ شكلٍ من الأشكال، بأمرٍ من السلطات الرسميّة التي أبلغته عبر سفارتها في تل أبيب بأنّه شخصيّة عير مرغوب فيها)