خبر العالم العربي يتغير ..ماجد كيالي*

الساعة 11:10 ص|08 فبراير 2011

العالم العربي يتغير ..ماجد كيالي*

انتفاضة شعب مصر، وقبلها انتفاضة شعب تونس، ستكون لهما تداعيات كبيرة وخطيرة على العالم العربي كله. وقبل كل شيء فإن هاتين الانتفاضتين دشّنتا مرحلة جديدة في التاريخ السياسي للبلدان العربية، فهما شكّلتا قطيعة مع النظم السياسية السائدة، منذ أكثر من نصف قرن، ووضعتا المدماك الذي يمهّد لنظام سياسي جديد، في هذه البلدان.

 

وينبغي الانتباه هنا جيداً إلى أن هاتين الانتفاضتين المجيدتين أظهرتا كم أن الحكام مقيمون في غربة شديدة عن مجتمعاتهم، وعن الواقع المحيط بهم، وكم أن الفجوة بين المجتمعات والسلطات، في هذه المنطقة من العالم، باتت جد عميقة، وجد واسعة، إلى درجة بات يخشى معها انه لا يمكن رقعها ولا جسرها.

 

أيضاً، فإن هاتين الانتفاضتين بيّنتا بكل جلاء أن حقبة قمع المجتمعات، أو تغييبها، أو التحكم بها، أو التسلط عليها، باتت تنتمي إلى زمن آخر، أو إلى عصر مضى وانقضى، وأن المجتمعات العربية، مثلها مثل غيرها من المجتمعات، يمكن أن تتحرك، وأن تثور على واقع القهر وامتهان الكرامة والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية، بغض النظر عن التوقيت الذي يصعب التكهّن به، أو الشكل الذي يمكن تأتي عليه.

 

فوق كل ذلك ثمة ما ينبغي استنتاجه مما جرى في تونس ومصر، ومما يتوقع حدوثه في غيرهما، آجلاً أم عاجلاً، وهو أن النظم السائدة باتت في حقيقة الأمر مستهلكة، أو فاقدة لأهليتها في الحكم والإدارة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، على حد سواء.

 

فعلى الصعيد الداخلي، مثلاً، ثمة إخفاق في وضع المجتمعات العربية على سكة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتكنولوجي، بل وثمة تعثّر حتى في تحقيق الاجتماعات، والاندماجات الوطنية، بل إن هذه الأنظمة تغولت في سلطتها على الدولة، وهمشت مؤسساتها ووظائفها، بحيث لم يعد منها إلا جهازها البيروقراطي.

 

أما على الصعيد الخارجي فتبدو هذه النظم، وهي في غاية التبلّد والشيخوخة، غير قادرة على إدراك متطلبات هذا العصر، وعاجزة عن مواكبة معطياته، إلى درجة أضحت معها، في وضعها هذا، بمثابة عبء على النظام الدولي، ما يفسر مطالبة هذه النظم من قبل المجموعة الدولية، ومنذ سنوات عدة، بإدخال إصلاحات على أوضاعها. ولعل هذا يفسّر أيضاً، التخلي السريع لحكومات الدول الغربية عن حلفائها من الحكام، وانحيازها إلى مطالب شعبي مصر وتونس (بغض النظر عن مقاصدها من ذلك).

 

عموماً فإن ما حدث في تونس ومصر كان متوقعاً، وإن كان مفاجئاً في طريقته، أو في التعبير عن ذاته، فالحكومات العربية السائدة، هي وحدها التي بوضعها التسلطي، لم تكن تريد أن ترى أو تسمع عن مدى التدهور الذي بات يحيق بمجتمعاتها وبأحوال دولها.

 

وفي الحقيقة فإن أصحاب الأمر والنهي في البلدان العربية، والذين أدمنوا مطالعة التقارير الأمنية التي تتعلق بأنشطة مواطنيهم السياسية، وحتى الثقافية والفنية والرياضية، تجاهلوا التقارير والإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تحدثت عن مخاطر البطالة والفساد والفقر ومصادرة الحريات في هذه البلدان.

 

ومعلوم أن تقارير «التنمية الإنسانية العربية»، التي توالت على الصدور منذ مطلع العقد الماضي، كانت حدّدت النواقص التي يعاني منها العالم العربي، في مجالات الحرية والتنمية والتعليم وتمكين المرأة. وفي حينه، فقد حذّرت هذه التقارير، وبشكل مبكّر، من أن عدم التعامل مع هذه النواقص وتلك الفجوات، عبر التحرك الحثيث والجاد لإصلاح نظام الحكم، واحترام الحريات، والارتقاء بالتعليم، ورفع مستوى التنمية، وتمكين المرأة، ومكافحة الفساد، سيؤدي حتماً إلى تزايد الفجوات في العالم العربي، ويضعف من قدرته على مواكبة التطورات الدولية، فضلاً عن أن هذا وذاك سيفاقمان أزماته، وبالتالي من واقع عدم الاستقرار فيه.

 

هكذا فإن هؤلاء، أي أصحاب الأمر والنهي، وهم ذاتهم أصحاب السلطة والثروة، لم يسمعوا عن هذه التقارير، وربما تعاملوا معها بوصفها مجرد نشرة إخبارية عادية، أو باعتبارها مجرد صدى لمؤامرة خارجية، وكل ما عمله هؤلاء أنهم اكتفوا بمجرد عبارات، تضمنتها بيانات القمم العربية، عن وعود بالإصلاح الداخلي المتدرّج، ووفق الخصوصيات الوطنية، من دون أن يعنوا شيئاً من ذلك في واقع الأمر. ولمن يتذكر فإن هذه الوعود الخائبة، على شكليتها، جاءت كنوع من استجابة للضغوط الخارجية (بخاصة تلك التي دفعت إليها أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001)، أكثر مما جاءت نتيجة وعي بضرورة الإصلاح الداخلي النابع من الحاجات الذاتية للتغيير.

 

وفي الواقع، وقبل التغيير في تونس ومصر، فإن غالبية النظم العربية السائدة لم تكن تستشعر الحاجة إلى التغيير، لسبب بسيط، وهو إنها كانت جد مرتاحة إلى مدى تحكمها بالمجالين المجتمعي والدولتي، وإلى نجاحها في وأد الفاعلين السياسيين المحليين، من خارج سلطتها. وبديهي في ظل هذه الأوضاع أن معظم البلدان العربية باتت بلا أحزاب فاعلة، ومن دون نقابات حقيقية، ومن دون وسائل إعلام حرة، ومن دون رأي عام، وحتى من دون مؤسسات دولتية.

 

وربما أن هذا الوضع هو الذي قدم انتفاضتي شعبي تونس ومصر، باعتبارهما بمثابة مفاجأة كاملة، إن بحدوثهما في ظل هذا الواقع القمعي والمزري، أو بسبب مجيئهما بخبرات جديدة، تختلف عن معظم التجارب التاريخية السابقة، فقد حصلت هاتان الانتفاضتان من دون أحزاب، ومن دون هيئات قيادية، ومن دون زعامات كاريزمية، ومن دون أيديولوجيات أو شعارات عامة، وفقط ثمة شعارات ملموسة، تتمثل بطلب الحق في العيش الحر والكريم.

 

الآن، ما الذي ينبغي استنتاجه مما جرى في تونس ومصر؟ ما يجب استنتاجه، ومن دون مواربة، هو إدراك حقيقة مفادها: أن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم العربي بات بحاجة ملحّة لعقد جديد بين الحاكمين والمحكومين، فلم يعد من المقبول، ولا من الملائم، العيش وفق الطريقة السابقة. وما ينبغي استنتاجه أيضاً أن عصر الدولة الشمولية، أو الدولة الأمنية، انتهى، أو هو في طريقه للانتهاء، وفقط فإن المسألة باتت تتعلق بالطريق إلى ذلك، فهل يتم ذلك بالطريقة الصعبة (أي بالانتفاضة والقطيعة وربما العنف) أم بالطريقة السهلة (أي بالانتقال السلمي الدولتي والديموقراطي)؟ هل يتم ذلك من خلال الفوضى أم من خلال الانتظام الواعي لضرورة خلق علائق جديدة؟

 

درس تونس ومصر يفيد بأنه لم يعد ثمة مجال للمعاندة، غير المجدية والمضرة، من قبل الحاكمين، وأن هؤلاء ينبغي أن يدركوا ما هو أفضل لهم ولبلدانهم، فقد انطلق قطار التغيير في العالم العربي على سكته، ولا يبدو انه سيقف من دون المرور بمختلف المحطات، بهذه الطريقة أو تلك. كما يفيد هذا الدرس بأن النظام العربي السائد بات في مرحلة الشيخوخة، على مختلف الصعد، وأنه آن لهذا النظام أن يصغي لصوت شبابه، الذي يتطلع إلى مستقبل أفضل له، في الحياة الحرة الكريمة، والذي يتطلع، أيضاً، لوضع بلده على سكة المستقبل.

 

* كاتب فلسطيني