خبر عبقرية أُمة../ عبد اللطيف مهنا

الساعة 10:58 ص|06 فبراير 2011

عبقرية أُمة عبد اللطيف مهنا

في ميدان التحرير، هناك في قلب قاهرة المعز، وحيث يشهد النيل الخالد، بدأت للتو يد التاريخ تسجل في هذه اللحظة العربية المائرة بالتحولات، وتخط بمداد قانٍ من الدم الزكي الطهور، أن هناك الآن في أم دنيا العرب بداية لم تعد في علم الغيب لعصر عربي جديد يقطع جازماً مع حاضر مرفوض يتم الآن تشييعه بحزم إلى مثواه الأخير. ويعلن مبشراً ببدايةً عربيةً لم تعد رهن الحلم أو قيد التنظير لقرن مختلف سوف لن يكن بمقدوره تجاهل العرب.

 

سوف يسجل هذا التاريخ شاء أم أبى، وسيخط ويداه ترتعشان حيرةً وذهولاً واندهاشاً أن مصر الآن قد بدأت للتو تستعيد مصر العتيدة... مصر الدور الذي إن عاد فلن يعد حالها كما هو حالها البائد الذي كان قبل هذه الأيام الشعبية التي تترى إبهارات في ميدان التحرير... تستعيد مصرُ مصرَ، وهذه الاستعادة التي إن هي كانت فلسوف تذكرنا بها حين كانت يوماً مصر محمد علي ومصر جمال عبد الناصر... مصر المكانة والدور الذي به تستعيد مصر أمتها وتستعيد الأمة بمصر ومعها ذاتها...

 

سوف يشهد هذا التاريخ الآن أن للعرب ثورتهم وثوراتهم الخاصة بهم التي لها خصوصيتها فرادتها ونكهتها المختلفة عن معلوم سواها من ثورات الأمم، والتي هي من طبيعة غير مسبوقة لدى غيرها... ثورة شعبية صرف، وانتفاضة متمردة على معهود القوالب الثورية المعروفة، الفكرية، والنظرية، والصانعة المبتكرة وحدها لتجربتها... الهبة العفوية الأرقى، والثورة الشعبية الأوعى، والانتفاضة الطوفانية الأسلم، والحالة التاريخية الحضارية المفاجئة والمقتنصة المدهشة للحظة التاريخية السانحة وصانعتها في آن... ثورة شعبية ساعد الاستبداد على اندلاعها وأسهم بوحشيته في صياغة أنموذجها الفريد ذي السمة العربية الخالصة... الثورة التي يقود فيها الشعب نخبه وقواه الحية، والتي لا تنتظر من يقودها، ولا تبخل، لا على الشعوب المستضعفة ولا على الأنظمة الاستبدادية، بدروسها والجديرة بأن ينحني لعبرها التاريخ...

 

... وسوف يسطر لما يأتي من بعده من تواريخ: أنه في البدء دشنت سيدي أبو زيد للبداية العربية شرارتها الأولى الملهمة، وأعطتها نكهتها التونسية المميزة، وجاءت هذه الإضافة المصرية الباهرة رافعة مشعلها الذي تلوح بوارق وعوده لمشارق الأمة ومغاربها... وما بين تلك الشرارة وهذا المشعل وصداهما المدوي في أرجاء المعمورة العربية تجلت  للأكوان وحدة هذه الأمة... وحدة الضمير ووحدانية الوجدان وتطابق الآلام ومشترك الأحلام وذات المصير والمآل... وحدة منتفضيها وأيضاً وبالمقابل وحدة مستبديها... وحدة تتجلى فيها الآن عبقرية أمة... يتجلى فيها هذا اللغز العربي الذي من الصعب على الغرب فهمه فلا تلوموه...

 

قالت تونس للمستبد ارحل فرحل تاركاً فلول نظامه من خلفه تناور وتحاور وتداور محاولة التفافاً فلا تنجح في خداع شعب لأنه أراد الحياة ولا يقبل إلا أن يستجيب القدر... والحكاية هناك مستمرة، حيث يحاول المحاولون والشعب لهم بالمرصاد وإن غدا لناظره قريب... وفي مصر اختصرت ثورة لكامل شعب ثورة لكامل أمة واختزلت مطلبها في عنوان لسفر كامل: ارحل وما بعد يأتي دور التفاصيل... ثورة لا تختصرها معارضة، وأيضاً ليس من الدقة نسبتها إلى مفجريها الشباب وحدهم، وإنما هي ثورة شعب بكامله، قلنا إنها تختصر ثورة أمة بقضها وقضيضها... وحيث الاستبداد جبان والطغيان أعمى، سمعنا في تونس من قال "فهمتكم" وهرب، ومن لم يفهم في مصر وانتظر حتى يجبر مرغماً على الفهم... وفي الحالين، سفكت الدماء واستشهد الشهداء وتجلت أسمى معاني التضحيات الشعبية التي بلا حدود، وواجهت الجماهير الغاضبة تحالفاً مقدساً نسجت خيوط العنكبوتية البغيضة بين المصالح والفساد وشهوة التسلط وعبث الأصابع الخارجية الطامعة... كان صراعاً بين الديمقراطية والبلطجة... بلطجة الفوضى الخلاقة، التي تعبر عن إرادة جهنمية غربية خفاشية يحاول أن يحجبها نفاق مكشوف، تحاول جاهدة إنقاذ أدواتها المنهارة في بلادنا وكسب الوقت لصناعة من ينوب عنها، ويقوم بوظيفتها بعد أن استهلكت وسقطت... تجهد لحماية مصالحها ما أمكن ولا تأبه لمصير المستهلكين الساقطين... في تونس ومصر واجهت الجماهير هجوماً بلطجياً مضاداً، وأخدوعة "الانتقال المنظم" للحكم في محاولة للإيهام بأن النظام ليس سياسات وإنما مجرد رموز أو أفراد... هجوم مضاد يستمد زخمه فنياً من مكيدة غياب شرطة مدروس وألعوبة حياد جيش غامضة المراد، يساويان معاً خطر الفوضى الخلاقة المرادة المدبّرة للالتفاف المأمول على الثورة وإجهاضها...

 

هنا، لا فرق بين تونس ومصر إلا في فوارق الحجم وقدرة التأثير وسعة ما يتبع من التداعيات ومثال الإفادة اللاحقة من الدرس التونسي في التعامل مع الحدث المصري... وعليه، نفهم كل هذا القلق الأمريكي البادي من مثل هذا التحول المخيف بشرارته التونسية الملهمة وشعلته المصرية المضيئة، والذي تجلى الإحساس به في إنشاء فريق أزمة أمريكي، يتابع على مدار الساعة ولحظة بلحظة تطورات الطوفان المصري، ويلهث مع دقائقها خلف تطوراته المفاجئة غير المتوقعة، محاولاً جهده تخفيف الخسائر والعوائد غير المتوقعة المنتظرة وابتكار صنوف الالتفاف المموه المرغوب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً... ونفهم أيضاً، هذا الرعب الإسرائيلي المتجلي استغاثات بلكنة ديبلوماسية، وبأشكال متعددة لم تعد مكتومة، والتي لا يحرص صاحبها على كتمها، بالغرب الراعي الدائم للجريمة الصهيونية المتصلة وللحالة العربية الرديئة الراكدة... وها هي تصريحاتهم الرسمية المستغيثة بعرابهم وسيد نعمتهم الغرب تترى وإعلامهم خير ما يعكس حالهم... وما بين القلق الأمريكي والرعب الإسرائيلي، يأتي كل هذا الارتباك الأوروبي المتوقع وهذه الدهشة العالمية المنطقية...

 

... المفارقة هي في أن صدى ميدان التحرير المتردد كان أكثر وقعاً وأشد إنذاراً في جنبات البيت الأبيض منه في دهاليز قصر القبة... قال أوباما، وكأنما هو المعني أولاً وأخيراً وليس فرعون مصر، لقد "سمعت صوت الشعب المصري"... أما هذا الفرعون، الذي تخلى الغرب عنه لينقذ نظامه، فهو حتى اللحظة لا يريد أن يرى أو يسمع!!!

 

قالت أبو زيد، ليس من شرعية خارج حاراتها الفقيرة الثائرة، وقالت أم دنيا العرب التي لم تعد تحتمل المهانة، لم تعد هناك من شرعية خارج ميدان التحرير... كل ما تحقق حتى الآن هو البداية، لكنها بداية واست جراح غزة وفيها يرى الفلسطينيون خطوة باتجاه فلسطين...

 

...ما بين 14 يناير التونسي و25 يناير المصري، تتجلى الآن عبقرية أمة... الأمة الواحدة وانتفاضاتها الثورية الواحدة، التي هي الآن رغم اختلاف مواقع اندلاعها، وحيث هناك بعض الخصوصيات، تترجم بلسان عربي فصيح واحد وبسائر لغات الأرض حقيقة واحدة تقول: إن الحرية وإرادة المواجهة... الديمقراطية وثقافة المقاومة... وجهان لعملة شعبية واحدة... وبهما وحدهما تبدأ أولى الخطوات في مشوار نهضة هذه الأمة.