خبر في اللحظة العربية... والمفارقة الفلسطينية!../ عبداللطيف مهنا

الساعة 12:41 م|30 يناير 2011

 

في اللحظة العربية... والمفارقة الفلسطينية! عبداللطيف مهنا

هناك حالة نهوض مدوية لإرادة عربية استيقظت وانطلقت حاملة معها وعوداً طال انتظارها. حالة كان قد مار جمرها طويلاً تحت رماد المرحلة الأظلم في تاريخنا المعاصر، واليوم انبجست شراراتها وكان لتونس شرف تلقفها، والأيام القادمة قد تخبرنا بأن أقطاراً أخرى مرشحة لأن تمد يدها للمشاركة بأخذ نصيبها من هذا الشرف.

 

نحن هنا نتحدث عن الشعب العربي، عن الأمة من محيطها إلى خليجها، والتي لم يسبق لها أنها كانت، كما قلنا مراراً، في مثل هذا المستوى الرائع من الوعي لخطورة لحظتها التاريخية الراهنة ومصيريتها وما قد يترتب عليها من تداعيات تطال مستقبل أجيالها، وإدراكها بالتالي لخطورتها وتعقيداتها، والأهم لضرورة أخذ زمام المبادرة الشعبية المباشرة لمواجهتها، والمبادرة لتحمل مسؤولية مستحقة ومن طبيعة وجودية لم يتحملها نظامها الرسمي الذي يعيش الآن أكثر مراحل انحداره بؤساً. بقي أن نقول إن ما قبل هذه اللحظة التونسية الانبثاق كانت قد هبت في دنيا العرب، من لبنان، وفلسطين، والعراق، نسائم ثقافة المقاومة والممانعة، وأخذت في الاشتداد بالتوازي مع بدء العد العكسي لتراجع ريح الانهزامية وواقعية الخنوع ولوثة خيار "سلام" الاعداء، واستكانة إيثار سلامة التبعية والتكيف مع إملاءاتها. هنا العلاقة جدلية، وقد كانت مقدمة لحدث اللحظة العربية الراهنة الحبلى ببشائرها.

 

هذا على الصعيد القومي، أما على الصعيد الفلسطيني، فهنا تكمن مفارقة قد تبدو عصية على الفهم إذا ما قورن راهن اللحظة الفلسطينية الفرع بالعربية المفترض أنها الأصل. لقد كانت فلسطين دائماً وستظل بوصلة النهوض العربي ومعيار حراك الأمة إن هي دافعت عن وجودها أو ذادت عن كرامتها أو رنت لمستقبلها، أو هي طمحت لأخذ مكانها ودورها الذي يتيحه لها تاريخها وحضارتها وإمكانياتها وقدراتها تحت الشمس بين باقي الأمم، وفي كافة الميادين التي لك أن تعدد منها ما شئت. وكان الشعب الفلسطيني ولايزال رأس حربة هذا الحراك المكافح وخط الاشتباك الأول فيه مع جبهة أعداء الأمة ويظل خندق دفاعها الأول، وكان دائماً على مستوى ما تتطلبه مهمته هذه، أو قدره، من تضحيات. الأمر الذي يجعل من المفارقة المشار إليها أقرب إلى نوع من اللامعقول، أو الكوميديا السوداء.... ما هي؟

 

إنها هذه الفضيحة الأوسلوية الشائنة، التي اختصرتها وثائق ما يمكن تسميته بـ"الجزيرة ليكس" التفاوضية التي تمت إذاعتها مؤخراً، والتي بدت كسحابة سوداء في نهارات الأمة الأخيرة المضيئة ذات النكهة التونسية المجيدة. الفضيحة السحابة التي عبرت من خلال هذه الوثائق إلى خارج غرف المفاوضات السوداء التي كانت مغلقة وتدور تحت جنح الظلام، لتزكم روائح تنازلاتها الأنوف وتفسد على الأمة والشعب الفلسطيني بالذات بهجة عرس اللحظة العربية التونسية-المصرية الواعدة.

 

لن نخوض في تفاصيل هذه الفضيحة المخجلة، فلقد تابعت الأمة من مشارقها إلى مغاربها لأيام وقائعها البائسة على شاشات التلفزة وصفحات الصحف. وعلينا أن نذكر بأنها لم تأت بجديد، أو ليس فيها ما لم يكن معلوماً أو معروفاً، على الأقل، في الساحة الفلسطينية، أو ما ليس بائناً لكل من تابع المسيرة الأوسلوية الكارثية لعقدين بائسين من الزمن العربي. المسيرة التي قادتها ذهنية التكيف مع نتائج المشروع الصهيوني الماضي قدماً في تطبيق كامل استراتيجياته التهويدية التي ما انفك يطبقها حرفياً منذ اليوم الأول للصراع وحتى اللحظة. مسيرة التخلي عن المنطلقات والمبادئ والأهداف التاريخية للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي مرت ذكراها السادسة والأربعين مع حلول فجر اليوم الأول من هذا العام، ونهج الخروج على المسلمات الوطنية والقومية، أو استبدال مبدأ التحرير، بمبدأ المفاوضات، التي تعني ولوج نفق التنازلات، أو التخلي عن شعار الثورة حتى النصر وإبداله بالمفاوضات حتى آخر ما يمكن أن يجر إليه نهج التفريط بكل ما اندلعت الثورة وضحى الشعب والأمة من أجله، أو ما جافى منطق التحرير هروباً إلى منطق التكيف مع ما يملى الأعداء، واستجداء المحتل في عبثية مفاوضات هي الأقرب إلى حفلة املاءات واستجداءات.

 

ولعل أبأس ما يمكن تصوره هو منطق جماعة "المفاوضات حياة" في دفاعهم عن أنفسهم، من مثل: الوثائق أوّلت، أو أخرجت من سياقها، وإن نشرها عمل مشبوه، بل هو مؤامرة صهيونية، وخيانة للشعب الفلسطيني... أو أنهم حتى الآن لم يوقعوا على ما عرضوه فيها على العدو من تنازلات، أو ما يعني عدم التوقيع النهائي على صك بيع فلسطين، وأن اعتقال المقاومين وتعذيبهم أحياناً حتى القتل من قبل أمن السلطة هو لحمايتهم من الاحتلال... وكل ما يختصره ما قاله كبير مفاوضيهم، الذي طمأننا في الوثائق بأنه مهما تنازل فلن ينتمي صهيونياً، ما قاله في لقائه مع نائب المبعوث الأمريكي هيل: حين اشتكى له أن سلطته المستجيبة لما يملي عليها قد "اضطرت لقتل فلسطينيين في سبيل إقامة سلطة البندقية وسيادة القانون، وما زلنا نؤدي ما علينا من التزامات"!

 

لقد قالت لنا الوثائق ما يعني أنهم تصرفوا على أساس أن أمن الاحتلال هو من أمن السلطة، وأن التعامل معه عبر ما يسمى "التنسيق الأمني" هو حاجة وطنية ولم يعد هذا التعامل المشين عندهم حتى وجهة نظر! الأمر الذي استحقوا بموجبه أن يُثمّن دورهم "الرائع" من قبل الأمريكان والإسرائيليين. وفي حكاية "النجاحات الأمنية للسلطة الوطنية"، التي وصلت بهم إلى حد مناقشة وزير داخلية السلطة كيفية التخلص من الشهيد المدهون مع وزير الحرب الإسرائيلي موفاز، وفق ما ذكر في الوثائق، ما يختصر كل هذا الذي وصلوا وأوصلوا القضية إليه...

 

ما حملته لنا وثائق "الجزيرة ليكس"، غير المفاجئ، وغير المستغرب، على الأقل، بالنسبة للوطنيين الفلسطينيين وقوى المقاومة والممانعة، وكافة القوى الحية في الأمة، تطرح على هؤلاء بالذات سؤالاً يقتضي الإجابة عليه الآن وليس غداً، سؤال التلكؤ في الإجابة عليه هو موضوعياً يعادل موضوعياً المشاركة في حفل الإملاءات والاستجداءات الذي مر ذكره، أو تسهيل استمرار جاري مهزلته الكارثية... هذا السؤال هو:

 

أما وقد فقدوا الشرعيتين، النضالية والقانونية وفوقهما الشعبية، وحيث أن حق العودة الذي هو جوهر القضية الفلسطينية هو حق فردي وجمعي ولا أحد يملك حق التنازل عنه، من أعطاهم حق التفاوض باسم الشعب الفلسطيني، وارتكاب جريمة المساومة على وطنه، أو التنازل نيابة عنه وعن أمته عن ذرة من تراب العرب وليس الفلسطينيين وحدهم في فلسطين، أو التفريط ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس بالنسبة للمسلمين، والمقدسات المسيحية بالنسبة للمسيحيين العرب وغير العرب؟!

 

وهذا يعني بالتالي، طرح السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً وهو: إلى متى يراوح المراوحون ويتردد المترددون في الساحة الوطنية، أو تحديداً قوى المقاومة فيها، عن التنادي الفوري لإقامة المرجعية الوطنية الغائبة... المرجعية التي تكون المؤتمنة على القضية وعلى خيار المقاومة، والمتمسكة بمبدأ التحرير والعودة... المرجعية القائدة التي هي ليست بديلاً عن منظمة التحرير، وإنما كخطوة في سبيل استعادتها إلى خطها الوطني وإعادة الاعتبار لميثاقها والشروع في بنائها بمشاركة الجميع وعلى أسس ديمقراطية... مرجعية تقود النضال الوطني وتنهى المفارقة الأوسلوية، أو ما تلتقي فيه الساحة الفلسطينية مع اللحظة العربية التاريخية الراهنة التي انبجست شعلتها التونسية، المصرية، ال... من رماد المرحلة مؤذنة بقدوم آتي الأمة الواعد... ؟!