خبر د. علي عقلة عرسان يكتب : الشرارة التونسية والثورة الشعبية العربية

الساعة 11:18 ص|28 يناير 2011

د. علي عقلة عرسان يكتب : الشرارة التونسية والثورة الشعبية العربية

ما قبل ثورة الشعب التونسي لا يشبه ما بعدها في أرض العرب، من حيث التربص والاستنتاج، والتأثير والوقع العام على الساسة والمهتمين بالشأن العام والجماهير والأوضاع التي تشكل مخامر تنمو فيها الأحداث.. وهي ثورة لا توصف بالدموية، ولم تعمد إلى العنف وسيلة للوصول إلى الأهداف التي تنامت وتدرجت طبيعياً من المطالبة بفرصة العمل وكرامة العيش إلى تغيير النظام كلياً، وإن اضطرت إلى العنف في بعض المواقف واللحظات بقيت محكومة بوعي، مصغية للتنبيه، ومتنبهة لأهداف ومآل سلوك وتصرف قد ينعكس عليها سلبياً، وقد حرصت على تحاشي الفوضى المدمرة، وعلى المحافظة على مؤسسات الدولة، والأملاك العامة والخاصة إلى حد كبير. وهي بعفويتها، وتطورها الطبيعي، وأسلوبها، والتدرج في وضوح رؤيتها، وإصرارها على بلوغ أهدافها المتنامية في مراحل استفادت فيها من آراء حكماء ومثقفين وذوي مكانة نضالية واجتماعية وتجارب ناضجة، أو أسست لها آراء حكماء ومجربين وأهل رأي ومثقفين منتمين بصدق لوطنهم وأمتهم ومجتمعهم.. وقد أصبحت ذات هوية وخصوصية وتأثير فعال، وباعثاً من بواعث الحراك الجماهيري، وقوة دفع وتحريض، ومحركاً إيجابياً في التغير النوعي الذي طرأ على موقف الشباب في المجتمع العربي.. وقد ظهرت إرهاصات ذلك ودلالات تفاعله ونموه وتواصله في بعض الأقطار العربية، لا سيما في " الجزائر، مصر، الأردن، اليمن..".

والتحرك الجماهيري الذي يجري اليوم في أرض الكنانة ليس بعيداً عن التأثر بتلك الثورة ونهجها. صحيح أنه ليس جديداً، وأنه عبر عن نفسه قبل ذلك بأشكال عدة، وأن المطالب التي يرفعها اليوم سبق أن رفعتها قبل ذلك بكثير أحزابٌ ونقابات وشخصيات سياسية وثقافية وإعلامية مصرية، ولكنه لم يكن تحركاً بهذا الحجم، وهذه النوعية، وهذا الإصرار والانتشار، وهذه الثقة، وأنه تأتى بوسائل وأدوات وصيغ ليست مما يستخدم اليوم في مصر، ولا مما كان محركاً ذا تأثير في تونس. إن مطالب المعارضة المصرية التي عبرت عن تطلعات شعبية ما زالت هي المطالب الرئيسة التي ينادي بها الجمهور اليوم في المدن المصرية، ولكنها كانت تنحصر في جهات وأحزاب ذات تطلع للإصلاح أو لاستلام الحكم ضمن أطر النظام بوصفها معارضة ذات رؤية، ولكن الأفق الذي يتطلع إليه شباب الانتفاضة الشعبية اليوم أبعد وأوسع وأكثر جذرية، وهو في تطلعاته وتحركاته متناغم كثيراً مع الأفق الذي بلغته ثورة الشعب التونسي. ونحن نلمس بوضوح ترديد الجماهير في القاهرة وبورسعيد وغيرهما من المدن في مصر، لمطالب مصرية بعبارات أو شعارات تونسية، الأمر الذي يشير إلى العدوى الإيجابية والتأثر والاقتداء، وحركة الشباب المصري الظاهرة في التخطيط والقيادة، والتجديد في الوسائل والأساليب والأدوات، ذات أبعاد وإمكانيات وتصورات خلاقة تشكل إضافة إلى ما كان لحركة الشباب التونسي.

وإذا دققنا في مواقف التنظيمات والأحزاب السياسية والنقابات المهنية المصرية من تلك الحركة، نجد أنها مواقف تعبر عن مبارِكة لها، وتنصفها حين تنسب إليها فضل هذا التحرك النوعي، وحين تقديمها بوصفها حركة عفوية شجاعة تستحق أن تبقى في المقدمة، وأن العنصر الأساس فيها شباب قادر على التغيير والتجديد، وله المصلحة الأولى في تغيير السياسات والممارسات ونظام الحكم، وأنه ينبغي أن يتقدم المسيرة، وهي معه أو من ورائه لا فرق، لأنه أكثر المتضررين من بقاء النظام والممارسات والأزمات القائمة والفساد المستشري، ولأن الشباب هم  أيضاً أكثر من يستفيد من التغيير لتتفتح أمامه نوافذ على المستقبل، وأن من حقه أن يشارك عملياً في رسم صورة الحاضر الذي يستشرف المستقبل.. لأنه هو المستقبل.

هذه الظاهرة المتنامية عربياً، ظاهرة دخول العنصر الشاب بقوة على خط التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لا تعبر فقط عن حالة معاناة اجتماعية ومعيشية ونفسية شديدة الوطأة يعيشها هذا الجيل، طفح معها كيل الأنفس، ففاض غضبها يغمر الشوارع، ويجرف ما سكن واستقر وتشبث بالبقاء من عفن وفساد وإفساد وممارسات مهينة لكرامة الوطن المواطن مما يتنافى مع حقوق الإنسان وكرامته.. بل تضيف إلى ذلك ضيقاً بلغ حد الرفض المطلق لمواقف سياسية رسمية متخاذلة أو متواطئة، من قضايا وطنية وقومية جوهرية عادلة، وسكوتاً رسمياً على تبعية للأجنبي، وعلى تدخله المباشر في الشؤون الداخلية للبلد، الأمر الذي ينال من السيادة والكرامة الوطنيتين، فضلاً عن نيله من المصالح والهوية والعقيدة والمقدسات ومقومات الشخصية الثقافية والاجتماعية للأمتين العربية والإسلامية، مما لا تتصدى له الأنظمة أو تشارك فيه.. وإعلاناً صريحاً عن تمرد على سياسات وأنظمة وشخصيات تحتمي بأعداء الأمة، وتستقوي بهم على شعبها، لتبقى في الحكم، أو ليبقيها أولئك في الحكم، لأنها مطواعة جداً، حتى لا نذهب في القول إلى أكثر من ذلك، تأتمر بأوامرهم، وتنفذ ما يريدون، وما يتطلعون إلى تحقيقه من تصفيات لقوى وقضايا مركزية في نضال العرب ووجودهم، وعلى رأسها قضية فلسطين والمقاومة للاحتلال والحصار والاستعمار.

إن درس الشعب التونسي أثر ويؤثر تأثيراً قوياً وواسعاً في الجماهير العربية على الخصوص، وهو يستحق أن يتابع ويقرأ باهتمام، وأجزم بأن هناك جهات ترتعد منه، وجهات أخرى تدرسه وهي معنية به وبنتائجه، وبينها جهات شعبية وحزبية ورسمية " سياسية وأمنية واقتصادية"، عربية وأجنبية، وأشير بصورة عابرة إلى بعض  تلك الجهات التي منها: 

1 ـ جماهير عربية تعاني من أوضاع صعبة ومن انسداد أفق الأمل والعمل أمامها، وتنظيمات سياسية واجتماعية، ونقابات مهنية، تقف في صفوف المعارضة، وكلها معجبة بالحراك الشعبي التونسي وما أدى إليه من نتائج، وتتطلع إلى ما يمكن الاستفادة منه من دروس وعبر، وما ينتظره، وهو مستمر في أدائه، من أحوال وما ينتظره من مآل، وتنظر إلى من يتدخل فيه ويتداخل معه، محاولاً ركوب موجته، وتجييره لمصلحته، وحتى حبسه في قمقم إن أمكن، من قوى داخلية وخارجية، خائفة أو طامعة.

2 ـ أنظمة رسمية عربية، تخشى تحركاً جماهيرياً شبيهاً في بلدانها، يجعل مصيرها يؤول إلى ما آل إليه مصير الحكم والنظام والحزب الحاكم في تونس. وهي تترجح بين تحاشي المواجهة الدموية مع الشعب حتى لا تتفاقم الأمور وتتطور المواقف إلى ما لا تحمد عقباه، وبين استخدام القوة حتى لا يخرج المارد الشعبي من قمقمه، وتتمكن من قمعه قبل استفحال أمره، ولا تسمح له بأن يستشعر قوته القادرة على التغيير حتى لا يزداد ثقة وتمرداً. وتعمل في الوقت نفسه على سرعة التجاوب مع المطالب ومعالجة الأزمات التي تشير إليها التحركات الجماهيرية، حتى تلجم التحرك إما بإرضائه وإماما باحتوائه وإما بقمعه إن هي استطاعت إلى ذلك سبيلا.

3 ـ دول وأجهزة أجنبية، غربية أميركية وأوربية، وإسرائيلية على الخصوص، تراجع سياساتها في ضوء قراءتها للأحداث والتوجهات الجماهيرية الجارية، وتعمل على تعزيز مواقف حلفائها من الحكام والساسة العرب والمرتبطين بها والمتعاملين معها، وتستعد بمرونة وانتهازية حرفيتين، للتعامل مع من يصل إلى الحكم ويحقق الغلَبة، حيث توحي وتغري وتعد وتؤيد عند اللزوم. وتدفع عناصر وجهات مرتبطة بها لتطفو على السطح وتحل محل المغلوبين من الحكام والأنظمة، لكي تبقى ممسكة بزمام الأمور. وهي إذ تبحث عما يحمي مصالحها ومصالح حلفائها وعملائها وتحقيق استراتيجياتها، تبدي استعدادها الكامل للتخلي عمن استخدمتهم وناصرتهم ممن احترقت أوراقهم، من دون أن تكترث بأية معايير وقيم وعلاقات، لكي يتحقق لها قبول أو شبه قبول من الشعب وتحظى بالثقة. وقد بدأ بعضها بمراجعة دقيقة وجدية لمعطيات ومعلومات وتقويمات وحتى سياسات، كانت راسخة ومعتمَدة ويستند إليها عند رسم استراتيجيات واتخاذ قرارات، وهي تتصل بالحراك الاجتماعي ـ الشعبي من جهة، وبالأنظمة والجهات والشخصيات الحاكمة والموالية لها من جهة أخرى.

4 ـ حركات شعبية وأحزاب وتنظيمات، وأجهزة ودول وأنظمة في العالم، ذات مصالح مع بلدان عربية، أو ذات قضايا داخلية يهمها أن تستفيد من تجارب الآخرين.

 إن الحراك الشعبي الجديد الجاد، الشبابي وغير الشبابي، الذي يتنامي في أنحاء من الوطن العربي، مدعو إلى التبصر في كثير من الأمور والتحركات والمطالب، وإلى الحذر من التدخل الخارجي، ومن عناصر انتهازية تبيع وتشتري في سوق السياسة والثقافة، وتتطلع إلى خطف الحراك وركوب موجته والاستئثار بنتائجه، تحت شعارات وذرائع شتى. وهو مدعو إلى حسن التمييز والتقدير والاستشراف، وإلى عدم الانجرار إلى الفوضى، والمحافظة على كيان الدولة ومؤسساتها، وإلى عدم تجاوز الواقع والممكن بقفزات كبيرة مغرية ومثيرة في الفضاء أو الفراغ اللذين يغري بهما النجاح. وأرى أن واجباً كبيراً ملقى على المثقفين العرب في هذه الأوقات، وأعني المنتمين منهم بصدق والمرتبطين مصيرياً بالوطن والأمة، المناصرين للحق والعدل والحرية والأصالة وحكم الشعب، ولقيم ومعايير ومقومات سياسية واجتماعية وثقافية سليمة وأصيلة.. أرى أن من واجبهم أن يتواشجوا مع الحراك الاجتماعي بالقول والعمل، وأن عليه هو أيضاً أن يستفيد منهم، وأن يبقى متيقظاً وحذراً حتى يتمكن من التمييز بين مثقف أصيل صادق الرأي صحيح الرؤية، يهتم بالقيم والشعب والوطن والإنسان، وبين آخر هو أداة بيد الآخرين، طامح أو طامع ولا يعينه أسلوب الوصول، وبضاعة معروضة في سوق الكلام، يروَّج لها بأشكال مختلفة حتى لو كانت هي الفساد والإفساد.

إن اليقظة مطلوبة، والاستمرار مطلوب، وتعاون القوى الخيرة القادرة في الأمة العربية كلها، يقع في رأس قائمة ما هو مطلوب، لكي يصل الحراك الشعبي إلى نتائجه، وتقطف الأمة ثماره، وتحمل تلك الثمار نكهة الأرض والوطن، ويرتاح الشهداء في أضرحتهم بعد كل ما قدموه للوطن والأمة، ويشفى الجرحى وتشفى جراح النفوس، وتصبح الشرارة الثورية التونسية المباركة ثورة عربية تغير ما ينبغي تغييره على كل المستويات، وفي كل المجالات، وعبر الحدود العربية. 

والله من وراء القصد