خبر فلسطين بين فضائين ..عدلي صادق

الساعة 12:32 م|25 نوفمبر 2015

بينما تتواصل وقائع غضب فتية فلسطين، وفتياتها، آحاداً، بنِصال سكاكين المطابخ؛ تدور، في فضاء آخر، رحى معركة ما بعد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وهي معركة بين الطامحين، لا تُسمع لها قعقعة، وإنْ سُمع لها ضجيج كلام في غير أوانه. حسم الأولون أمرهم، فلم يعد ثمة فصيل بمقدوره حمل غضبهم الى مقرّاته الآمنة، لكي يصنع منه سياسة ومنهج عمل. فالغضب ثقيل، والطريق طويل والعمر قصير. الأخيرون، في الفضاء الآخر، ينامون على وسادة الاطمئنان، لأن المستقبل والريادة الأبدية انعقدتا لحركة فتح. نعم، هكذا بدون تدابير لتخليق واقعٍ أفضل، في حركتهم، وعلى صعيد علاقتها مع الجماهير ومع قاعدتها. وينام واحدُهم على الوسادة نفسها، مطمئناً لأن الزعامة والوجاهة انعقدتا له، حتى لتجدن، من بين هؤلاء، من يجرؤ على القول، في توصيفه الفضاء الأول: « الأمور تحت السيطرة »، من دون أن يكلف نفسه شرحاً يجيب عن أسئلةٍ، مثل: سيطرة مَن على مَن؟ وفي أي سياق؟

الأولون، وبقدر ما هم ملء العين والقلب؛ ليس لهم عنوان يتوجه إليه الأخيرون الحائرون، ويقصده جون كيري وسواه من حرافيش الإقليم، لكي يحتوي غضبهم الطافح. عنوانهم العام، المجهولة تفصيلاته عاجلاً، المعلومة آجلاً؛ يتفتت إلى عناوين لا حصر لها، يُعلم واحدها بعد تسجيل رسالته، وإغلاق صندوق البريد لحظة الانفتاح على السماء. يُعرف العنوان السابق، للشهيد، ولا يُعرف العنوان اللاحق للشهيد الذي يليه. هو مكتوب على نصل السكين المخبأ. أما العدو الغبي الاستعلائي؛ فتراه مغلقاً على جنونه، استعصت عليه حتى أفكار التحايل ومحاولة إرضاء الناس، بغواية بعض التسهيلات التي تساعد الطامحين على أن يتولوا بأنفسهم مهمة تهدئة غضب الفتية والفتيات، والزعم أن قوى خفيّة تحرّض، وتحاول ضرب « المصالح الوطنية العليا »!

كأنما فضاء الشباب والفتيات قد أعطب السياسة، من حيث هي رديئة، راكدة، مسكونة بالطحالب. في المقابل، يراهن الطامحون على أن الرئيس، محمود عباس، في العقد الثامن من العمر. إن هذا، بحد ذاته، رهانٌ معيب، لأن الأعمار بيد الله، ولأن طبائع القول والخُلق أن يدعو واحدنا لكل من يتنفس من الوطنيين، أو المشتغلين بالعمل الوطني العام، بطول العمر. وهذا، في الوقت نفسه، يُعد، بمعيار السياسة، رهان فاقدي ثقافة الدولة، فالأجدر أن يكثف الرهط الطامح جهوده مع الرئيس عباس، للتوصل إلى بُنية صلبة وراسخة، للنظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته. أما السجال الذي يتقمص فيه الصارخون، كلٌ من موقعه وموقفه، أدوار القضاة، والأوصياء على حركة فتح، وحرّاس الفضيلة ومسطرة قياس الجودة؛ فهو ليس سجالاً غير مُجدٍ وحسب، وإنما يفاقم أزمة هذا الإطار الواسع. ذلك لأن للعدالة لغتها ومنطقها، وللوقائع حيثياتها، ولأن محددات الفضيلة يجب أن تسري على الجميع، فليس في وسع أحدٍ أن يحظى بأية صدقية، فيما هو يدّعيها، ولن تؤول له الأحقية في هذه الأدوار، لمجرد أنه يحكي.

ولئن كانت هذه المرحلة، من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، قد أثقلت كثيراً على رموزها وخيولها؛ فإن أوجب الخيارات هي الذهاب إلى وقفة موضوعية مع النفس، لاجتراح سبل الاستمرار في العملية التاريخية المحتمة، وقوامها الكفاح الوطني لدحر الاحتلال، مع عزله، والتضييق عليه، وشيطنته، ورفع كل حاجز يفصل بينه وبين الجماهير الغاضبة.

نعلم صعوبة أن يبدّل القائمون، من الصف الأول، على هذه المرحلة، لغتهم وخياراتهم. لقد أدوا دورهم، واجتهدوا بثقافتهم، وبتقديراتهم وتوقعاتهم مآلات سعيهم. إن من يحميهم بعد أن يحط واحدهم عصا الترحال، هو النظام السياسي المُحكم. كان الرئيس الشهيد، ياسر عرفات، أشجع هؤلاء وأنبلهم. اصطدم بالنتيجة، فامتشق لغته الأولى، مثلما امتشق كل شهيد سكين مطبخ الأسرة، فقضى نحبه. لا ندعو، هنا، إلى استشهاد جماعي، وإنما إلى جهد جماعي، لإعادة الاعتبار لفكرة النظام السياسي الرصين، فهو وحده، حين يستند إلى تفويض شعبي؛ المؤهل لأن يتحدث عن القضاء، وعن حقائق تجارب الناس، وعن مقتضيات الفضيلة، وعن إحداثيات الطريق.