خبر الشباب أدُوا ما عليهم ..فهمي هويدي

الساعة 11:23 ص|23 نوفمبر 2015

الانتفاضة الفلسطينية اليتيمة تفاجئ إسرائيل كل حين بما يصدمها ويحير خبراءها.

أحدث رسالة من ذلك القبيل تلقتها إسرائيل يوم الخميس الماضى (١٩/١١) الذى وصفته صحيفة «هاآرتس» بأنه اليوم الأكثر قتلا منذ بدء العمليات (فى أول أكتوبر الماضى)، وإذ اعتبرت أن ما وقع فيه يعد «كابوسا»، فإنها أبدت دهشة لسقوط خمسة قتلى خلال ٣ ساعات فى تل أبيب وتجمع مستوطنات غوش عتصيون. وبهذه الضربة الموجعة وصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى ١٧ شخصا، إضافة إلى عشرات الجرحى.

لم يتوقع الإسرائيليون أن ينفجر الغضب الفلسطينى فى عقر دارهم، رغم معارضة السلطة فى رام الله. ودون توجيه من فصائل المقاومة، بل ودون أى سند عربى أو اقليمى أو دولى. وهو ما جعلها انتفاضة عابرة للهياكل والفصائل وقادمة عليهم من حيث لا يحتسبون. رغم السور ورغم التنسيق الأمنى مع سلطة رام الله ورغم اتفاقات التهدئة ودعوات ضبط النفس. إن شئت فقل إنها انتفاضة بلا صاحب وبلا قيادة وبلا رعاية من أى نوع، هى انتفاضة جموع الشعب الفلسطينى الذى لم ينس أرضه المغتصبة ولا تزال جراحه تنزف دما غزيرا منذ أربعينيات القرن الماضى.

ما أثار انتباه القادة الإسرائيليين ليس فقط حصيلة القتلى يومذاك، وإنما أقلقهم إلى جانب ذلك أمران أساسيان. الأول أن الفلسطينى الذى قام بعملية الطعن فى تل أبيب (اسمه رائد مساعد) يحمل تصريحا بالعمل داخل إسرائيل. وهو واحد من ٦٠ ألف فلسطينى أعطوا مثل ذلك التصريح بعد التدقيق الأمنى فى سجلاتهم، الذى أكد لهم أنهم أبعد ما يكونون عن الارتباط بالفصائل. وزاد من دهشتهم أن الرجل الذى يعيش فى الخليل يبلغ من العمر ٣٦ عاما وأنه متزوج ولديه خمسة أطفال منهم اثنان (توأم) ولدا قبل شهر من الحادث. ولأنه ليس شابا يافعا. لكنه رب أسرة ليست صغيرة ويحمل تصريحا رسميا بالعمل داخل إسرائيل. فقد كان الظن أنه سيكون أحرص على الاستمرار فى وظيفته وأشد حرصا على رعاية أسرته. على الأقل فذلك ما صرح به مسئول أمنى كبير لإذاعة جيش الاحتلال حين قال إنه منذ زمن بعيد لم يحدث أن فلسطينيا ممن يحملون تصاريح العمل قام بأى عملية مقاومة. إنما ظل هؤلاء طوال السنوات السابقة يأتون فى الصباح ويغادرون فى المساء دون أن يشارك أى منهم فى العنف. وفى ذات الوقت تبين أن كل الذين نفذوا عمليات دخلوا إسرائيل بلا تصاريح. وبسبب ذلك فإن الصحف الإسرائيلية اعتبرت ما أقدم عليه رائد مساعد بمثابة «صدمة» و«تحول دراماتيكى».

وبعد العملية التى قام بها وأدت إلى مقتل حاخام كبير اسمه أهارون لسبيد فإن أجهزة الأمن الإسرائيلية ما عادت مطمئنة إلى عزوف العمال الذين يحملون تصاريح عمل داخل إسرائيل فى المشاركة فى عمليات المقاومة، خصوصا بعدما تبين أن المشاركة فى الانتفاضة وتصفية الحساب مع المستوطنين والجنود الإسرائيليين بات قرارا فرديا لا علاقة له بأى من الجهات الفلسطينية أو غير الفلسطينية.

ما تجاهله مسئولو سلطة الاحتلال أن حملة التصاريح وأقرانهم من المقيمين وراء ما يسمى بالخط الأخضر إذا كانت سجلاتهم الأمنية خالية من أية شبهة. وأن أغلبهم لا ينتمون إلى فصائل المقاومة، وأنهم إذا كانوا أرباب أسر وبحاجة للعمل فى داخل إسرائيل، إلا أنهم لم ينسوا أنهم فلسطينيون قبل أى شىء آخر. وأن اغتصاب أرضهم وإذلالهم وقتل إخوانهم مما لا ينسى أو يسقط بالتقادم.

الأمر الثانى الذى لفت انتباه الإسرائيليين أن الانتفاضة لم تعد مقصورة على حملة السكاكين. وهو ما أثار الرعب فى أوساط الرأى العام. ولكن السلاح ظهر بين أيدى الفلسطينيين يومذاك. فحادث تل أبيب استخدم فيه رائد مساعد السكين. أما ما جرى فى غوش عتصيون فقد كان له سمة مغايرة. ذلك أن الشاب الفلسطينى الذى قام بالعملية (اسمه محمد عبدالباسط الحروب) كان قد اشترى بندقية عوزى قبل أربعة أيام من الحادث. ثم قرر أن يقود سيارة ليحاول دهس المستوطنين، وقد استخدم البندقية فى قتل اثنين وإصابة سبعة منهم، حين أطلق عليهم الرصاص قرب تجمع غوش عتصيون الاستيطانى، إلا أنه ألقى القبض عليه قبل أن يشرع فى عملية الدهس. وطبقا لما ذكرته القناة العاشرة لتليفزيون إسرائيل يوم الجمعة ٢٠/١١ فإنه ذكر فى التحقيق الذى أجرى معه أنه لا ينتمى إلى أى فصيل ولكنه فعل ما فعله ردا على قتل الفلسطينيين.

جهاز المخابرات الإسرائيلى (الشاباك) وصف موجة العمليات الأخيرة بالأعنف منذ ٩ سنوات. أى منذ نهاية انتفاضة الأقصى واستكمال بناء الجدار الفاصل. واعتبر أن العمليات التى تمت خلال شهر أكتوبر توازى ضعفى العمليات التى تمت خلال عام ٢٠١٣ بكامله. وفى تعليق أليكس فيشمان محرر الشئون الأمنية الاستراتيجية بصحيفة يديعوت أحرونوت على ما يجرى فإنه نقل عن مصادر رفيعة جدا فى تل أبيب قولها إنه لا توجد دولة فى العالم قادرة على مكافحة ما وصفه «بالإرهاب» الذى تواجهه إسرائيل فى الفترة الأخيرة. وذكر مسئول أمنى لإذاعة الاحتلال إنه بات من الصعب للغاية التعرف على منفذى العمليات والتنبؤ بتصرفاتهم، بعدما أصبح الأمر قرارا فرديا لكل واحد منهم، ليس خاضعا لأى قيادة أو توجيه من خارجه.

إنهم لا يريدون الاعتراف بأن الاحتلال هو المشكلة وأن زواله هو الحل. وهى العقيدة التى توارثتها أجيال الفلسطينيين منذ النكبة فى عام ١٩٤٨. صحيح أن ما يفعله المناضلون الفلسطينيون لن يزيل الاحتلال، إلا أنهم إذا اكتفوا بتذكير الجميع بهذه الحقيقة فقد أدوا ما عليهم بالحجارة وبالسكاكين وبغير ذلك، وليس مطلوبا منهم أكثر من ذلك.