خبر الحرق: المسؤولية والرد الذي لن يأت

الساعة 10:12 ص|03 أغسطس 2015

فلسطين اليوم

أطلس للدراسات

جريمة حرق عائلة دوابشة، على فظاعتها ووحشيتها، فهي ليست فعلًا اجراميًا استثنائيًا منزوع السياق، بل هي أحد إفرازات وتعبيرات جريمة الاحتلال الاحلالي الاستيطاني الذي هو أصل الداء والبلاء، والمسؤولية عن كل الجرائم، سواء المنظمة من قبل المؤسسات الرسمية لدولة الاحتلال أو تلك المنظمة من قبل عصابات المستوطنين ومجموعاتهم الاجرامية، هي مسؤولية مباشرة للدولة الراعية للاحتلال ومشروع الاستيطان، ومسؤولية المجتمع الدولي الذي يشارك بصمته وتواطئه ويسمح لإسرائيل المرة تلو الأخرى بالتنصل من المحاسبة والمسؤولية، وللأسف الشديد فإن لنا نصيب من المسؤولية غير المباشرة، مسؤولية عن إطالة عمر الاحتلال، ومسؤولية عن إهدار تضحياتنا ومعاناتنا وازهاق أرواحنا، ومسؤولية تمكين الاحتلال من التهرب من تحمل المسؤوليات ودفع الثمن.

ليس هول الجريمة هو الذي دفع زعماء إسرائيل للخروج، تقريبًا بشكل غير مسبوق، منددين ومستنكرين الجريمة استنكارًا واضحًا لا لبس فيه ودون أي محاولات لربطها بمقتل مستوطنين، ووصفها بالإرهاب اليهودي، وهو أمر نادر واستثنائي، فليست قسوة الجريمة هي الدافع للاستنكار، فقد شرعنوا ومارسوا وبرروا جرائم أكثر قسوة منها قبل عام فقط في عدوانهم الوحشي على غزة؛ بل لعدم القدرة على تبريرها والخوف من الانطباع الذي ستتركه عن المستوطنين والاحتلال ودولة إسرائيل، ومحاولة امتصاص ردود الفعل وحماية مشروع الاستيطان والفصل ما بين الاحتلال والاستيطان وما بين الجريمة والمجرمين.

قادة دولة الإرهاب المنظم، الذين أقاموا دولتهم ومشروعهم الاستيطاني الكبير بالاعتماد على أعمال القتل والتنكيل والبطش والقوة المنظمة المغطاة بقوانين عنصرية فصلوها وانتقوها لتبرير القتل وتشريعه، يستنكرون بكل اللغات جريمة الحرق لإدراكهم حجم ما تمثله من خطورة على استمرار مشروعهم الاستيطاني وعلى الشعبية المتزايدة لأيديولوجية اليمين التي تحولت في السنوات الأخيرة الى جزء من الاجماع الإسرائيلي، ولما تشكله من حرج كبير لدولة اسرائيل ومس بسمعتها يساعد كثيرًا في نزع شرعيتها وتعزيز التضامن مع الفلسطينيين. حتى ان قادة المستوطنين أنفسهم سارعوا بالاستنكار والمطالبة بإلقاء القبض على المجرمين ومحاكمتهم، لخشيتهم من تداعيات هذه الجريمة على استمرار التعاطف الإسرائيلي الشعبي مع مشروعهم الاستيطاني.

بيد ان كل هذه الاستنكارات على اختلافها كان لها هدف واحد: الفصل بين الجريمة وبين الاحتلال والاستيطان، وإظهار الجريمة وكأنها عمل استثنائي منزوع السياق وليس نتاج بيئة التحريض والاحتلال والاستيطان، وإظهار المؤسسة الرسمية الاسرائيلية بمظهر المؤسسة المهنية المحايدة التي تهتم بتوفير الأمن والحماية للجميع.

كما ان الاستنكارات الدولية اكتفت بإدانة الجريمة ودعوة الجميع لضبط النفس، ولم تشر من بعيد أو قريب للاحتلال والاستيطان، ولا الى الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وحقه في حماية أبنائه وأرضه من بطش الاحتلال والاستيطان.

تعابير الوجه المصدوم لنتنياهو وريفلين، وكل السياسيين الإسرائيليين، هي دور تمثيلي يساعدهم في التبرؤ من المسؤولية، لكنه تبرؤ شكلي تمثيلي غير حقيقي، مثل استنكاراتهم، فهم من وفر - ولا زال يوفر - الحماية الكاملة ليس فقط للمستوطنين، بل ولعصابات القتل والحرق على المستوى المادي والقانوني، حيث سابقًا رفضوا إعلانهم كتنظيم إرهابي، واكتفوا بوصف أعمالهم بغير المشروعة، ورفضوا منح « الشاباك » التغطية القانونية التي طلبها، والتي تسمح بتحرير يديه قليلًا في مجال جمع المعلومات والاستجواب، ولم يحاسبوا أيًا من حاخامات التطرف والتحريض العلني على قتل الفلسطينيين.

كل الحكومات الإسرائيلية أطلقت يد المستوطنين والجيش للتنكيل بالفلسطينيين، وعملية حرق عائلة دوابشة هي الأخيرة حتى الآن من بين عشرات عمليات الحرق التي لم يعتقل أي من منفذيها؛ الأمر الذي يظهر بوضوح حجم تواطؤ وتساهل المؤسسة الأمنية وغضها للنظر عنهم، سواء تعاطفًا أو خوفًا.

ولا بد ان مجرمي حرق الطفل علي دوابشة وذويه معروفون لقوات الأمن الاسرائيلية أو انه من السهولة بمكان الاستدلال عليهم، وليس كما يدعي الاعلام الاسرائيلي انهم لم يتركوا خلفهم آثارًا، حيث من شبه المؤكد انهم بعد فرارهم من المكان في ساعات متأخرة بعد منتصف الليل دخلوا مستوطنتهم أو إحدى المستوطنات القريبة، وكل المستوطنات لها بوابات وتخضع لنظام حراسة ومراقبة أمني شديد، وهو وقت متأخر تندر فيه حركة الدخول والخروج، ومن المؤكد ان برفقتهم سيارة، ونتخيل ان عديدًا من سكان مستوطنتهم يعرف من الفاعلين.

المشروع الاستيطاني في الضفة منذ زمن تحول الى دولة تحكم دولة إسرائيل، دولة لها قوانينها غير المكتوبة، وتنظيماتها المسلحة الرسمية وغير الرسمية، وأذرعها الأمنية والسياسية والإدارية تخترق الجيش والأحزاب والكنيست والوزارات، ولا يستطيع اليوم أي حزب كبير أو رئيس حكومة ألا يلتزم بحمايتهم وتأمين استمرار بقاء مشروعهم ونموه.

جريمة الحرق وجريمة الاستيطان المستمر والجرائم اللاحقة لدولة الاحتلال بحق شعبنا تكشف مسؤوليتنا غير المباشرة في عجزنا عن توفير الحماية الممكنة لشعبنا، وفي عجزنا عن الرد على هذه الجرائم، والمقصود هنا ليس الرد العاطفي الغاضب، رد الفعل الميكانيكي الموسمي الذي بحماقته أحيانًا قد يغسل يد المحتل سريعًا من المسؤولية ويحول الضحية الى جانٍ، الرد المطلوب هو الرد القادر على استثمار كل طاقات الشعب ومؤسساته في معركه طويلة مثابرة ذات استراتيجية واضحة ومعروفة، ومعركة طويلة النفس وشاملة تجعل الاحتلال غير قادر على تحمل دفع أثمانها وتجعلنا قادرين على تحمل أعبائها والاستمرار في البناء والحياة، لكن للأسف هذا الرد لن يأتِ وهذه المعركة لن تحدث، لأن الانقسام يحول دون ذلك، ولأن نظامنا السياسي والحزبية الفصائلية غير قادرة على ذلك، ان السؤال الأهم الذي يجب ان يطرح على كل القيادات والفصائل والأحزاب هو كيف نقصر عمر الاحتلال؟ وليس كيف ننتقم منهم أو كم قتيلًا نوقع بهم؟