خبر لا تجعلوا غزة مضربا لنيران خلافاتكم -بقلم: د .جميل يوسف

الساعة 08:54 ص|15 ديسمبر 2014

بقلم: د .جميل يوسف

لقد بات واضحا ان المشروع الوطني الفلسطيني منذ نشأته ومأسسته وبالأخص منذ العام 1964 وانطلاق فصائل العمل الوطني, ان مكونات هذا المشروع عانت من ازدواجية روح العمل, من الناحية الأولى واجهت المشروع الصهيوني بكل قوة ودفعت ولا زالت تدفع خيرة الجهد والنفس وحفرت لفلسطين موقعا متقدما لم ولن يستطيع احد العبث بهذا الموقع, ونجحت الفصائل بالارتقاء بالقضية من قضية لاجئين واحتياجات انسانية الى قضية وطن وشعب وحقوق وثوابت.

ومن الناحية الثانية عندما يتعلق الامر بالعلاقات البينية الفلسطينية (بين الفصائل الوطنية)  يتحول الموضوع الى صراع وتناقض بل واحتراب في كثير من الاحيان كما حدث في الأردن في سبعينات القرن الماضي, وفي غزة وفي لبنان قبل عام 1982, وكذلك كانت انتفاضة الحجارة عام 87 وما تلاها من اتفاقيات التسوية عام 1993 كانت العلاقات البينية الفلسطينية تتسم بالتنافر وفقد الفلسطينيون نتيجة لهذا التناقض  الكثير من الأرواح واثمن الاوقات والفرص وحتى الحقوق. ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى الحركة الاسيرة والتي اعطت نموذجا رائعا في العلاقات الفلسطينية  الداخلية والمهمومية  الوطنية العالية جدا وحافظت على علاقة التناقض التام مع المشروع الصهيوني وعلاقة الشراكة والتكامل مع مكونات المشروع الوطني الفلسطيني.

 

وقد تجلت العلاقات الفلسطينية التناحرية بشكل واضح في مصيبة الانقسام الفلسطيني والذي لم يكن استثنائيا بل كان نتيجة منطقية لهذه العلاقة البينية والتي كانت على الدوام لا تقوم على الشراكة والتكامل بل كانت اسيرة لرفض الآخر وتخطيئه بل ولعنه في معظم الاحيان, وهذه المسألة باتت من البديهيات الفلسطينية و بات شعبنا أسيرا لها في كثير من قراراته ومؤسساته لا بل وسقف حقوقه.

 

اصبح الخطاب الفصائلي الخاص والمصلحة الحزبية هي الطاغية والاساس حتى وان تعارض مع المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الشعب الفلسطيني, وادت هذا النمط من العلاقات الوطنية الداخلية الى ارساء ثقافة العداء والتنافر بين مكونات المشروع الوطني وعدم قبول الاخر بل تخطيئه على الدوام, مما ادى الى تعثر المشروع الوطني وتشظيه الى الى اجزاء وآراء وتحالفات متباينة, "كل حزب بما لديهم فرحين". وضاعت الطاقات الفلسطينية في كل الاتجاهات من تقديس للذات الفصائلية وتخطيئ للآخر الفلسطيني وبات الناظم السياسي للفعل الفلسطيني غير موجود الا في المؤتمرات الصحفية الشكلية وترويسة البيانات.

 

لم تشهد الساحة الفلسطينية ثقافة سياسية مبينة على الشراكة والتكامل منذ تشكيل م ت ف بل اعتمدت على تحكم الفصيل الواحد في اتجاه البوصلة الفلسطينية وحتى داخل هذا الفصيل المتحكم  يسيطر على حركته السياسية شخص واحد وعقل واحد كما كان الحال في م ت ف واللجنة التنفيذية. تبدأ المشكلة الفلسطينية الداخلية من هذه الثقافة التي شكلت طعناتها للمشروع الوطني الفلسطيني اكثر مما شكل هذا العدو الصهيوني الواضح المعالم, لذلك ليس غريبا ان يصطدم هذا الجهد الرائع للمقاومين والشهداء على مدار اكثر من خمسين عاما بالثقافات الحزبية الصادمة للمشروع الوطني الفلسطيني.

 

ان الثقافة المسيطرة الآن على تصرفات الفصائل هي التي تفسر عدم نجاح الكل الفلسطيني في تحقيق نجاحات واضحة في مسار الصراع مع المشروع الصهيوني, واصبح المراقب للفعل السياسي للفصائل يلمس هذا التخبط ففي هذه اللحظة التي اكتب فيها هذا المقال اسمع من يدعو الى مسيرة للقدس وآخر لاضراب الاسرى وثالث لانطلاقته ورابع استنكارا لجريمة اغتيال القائد زياد ابو عين على يد المشروع الصهيوني في فلسطين, وخامس  يدعو الى الثأر وسادس يدعو الى انتظار قرار القيادة الفلسطينية.....الخ. ان هذه الظاهرة هي المعيق الرئيس للمشروع الوطني الفلسطيني, واداة تفسيج ناجحة للشعب الفلسطيني. نعم كل هذه المناسبات وطنية وتستحق خروج الجماهير لكن كل هذا الجهد هو جهد ضائع بالمقياس الوطني العام حتى وان استفاد منه هذا الفصيل او ذاك,

 

كنا رائعين في الكرامة 1968 لكن اختلفنا فضاقت بنا جرش وعجلون ومياه نهر الاردن واختلفنا في لبنان فدمرت المخيمات ثم تشردنا في منافي جديدة واختلفنا في الانتفاضة الاولى فغطتنا ام النكبات اوسلو واختلفنا حول السلطة والحكومة فغرقنا في الخط الحمر "الدم الفلسطيني" والآن اختلفنا في اعمار وفك حصار غزة فطاردتنا البيوت المهدمة واجساد المرضى, واختلفنا ايضا وايضا..... تقوم قوى المقاومة ببطولات واعمال رائعة لكن كل فصيل لا يضعها في آخر اليوم في الطبق الفلسطيني المتكامل ويحاول الاحتفاظ بهذا الانجاز او ذاك بعيدا بمفرده, فيصبح هذا الفعل هشا وعديم الوزن لأنه وضع في غير مكانه, وضع في الطبق الفصائلي وليس في الطبق الفلسطيني.

ان تصحيح البوصلة تبدأ من ثقافتنا السياسية وربط العمل الحزبي الضيق بالهم الوطني العام, ان المشروع الوطني الفلسطيني هدف والقوى السياسية والفصائل ادوات وان انعكاس الأدوار بين الهدف والاداة يكون كارثيا. فلسطين تتسع للجميع لكن يستحيل ان يتسع الفصيل مهما كان حجمه وصوابيته لفلسطين او كل الشعب الفلسطيني. ان ثقافة الاحتراب الآن تدمر الوطن العربي وتمزقه اشلاء مبعثرة كما يحدث في العراق وسوريا ومصر وليبيا وغيرها, وان قدر الفلسطيني ان يكون النموذج العربي القادر على التوحيد والشراكة والعمل الجمعي وان نعطي الصورة الاخرى المباركة في الاحتماء بالمشروع الكبير والابتعاد عن خطاب الأنا الحزبي. هذه هي المسئولية الوطنية التي بدونها سنبقى نزرع كثيرا من الشهداء والانجازات بدون ان نلمس اية ثمار.

ان القادة والزعماء الذين لا يستطيعون الخطابة الا عبر التجريح يجب ان يدركوا انهم يرتكبون جريمة وطنية وان اضاءة الشموع افضل من لعن الظلام وان ثقافة الشراكة والمسئولية الجماعية يحب ان تبدأ من داخل الفصيل نفسه قبل الآخر. هل يمكن تجريم الشتائم التي تقوض النسيج الاجتماعي والسياسي؟ ولماذا لم توضع خطة لجعل المناسبات الحزبية كالانطلاقة واستشهاد الامناء العامين او الأسرى والحصار وغيرها مناسبات عامة لا يجوز للفصيل الاحتفال منفردا, اذا كنا متأكدين ان ذلك الفصيل مكون اساسي من مكونات المشروع الوطني الذي هو اكبر منا جميعا؟ يجب ان نقزم الخطاب الخاص ونضخم الخطاب الوطني العام ونقلل من الأعلام الفصائلية ونرفع العلم الفلسطيني فقط.

ان التقسيم يأكل الآن الاخضر واليابس ونحن لا زلنا نتمسك بالوسيلة ونبتعد او نتناسى الهدف الأسمى والأقدس فلسطين, وما  يحدث الآن في غزة المنتصرة والشامخة يؤكد ان روح فريقي الانقسام لم تغادر ساحة الماضي السوداء الى ساحة المستقبل الذي يمكن ان يمنح المواطن الفلسطيني بشكل عام والفلسطيني في غزة بصيصا من الأمل, وبينما تواصل غزة النزيف الدامي منذ الثامن من يوليو حتى الآن يواصل قادة الانقسام ترك هذا الدم المتدفق والاهتمام باطلاق النار صوب بعضهم البعض, وتحميل الفلسطينيون فاتورة جديدة اضافة للفواتير التي لازالت تدفع كما يحدث الان في مستشفيات غزة ومحطة الكهرباء والرواتب .....الخ من الفواتير التي لا يلقى لها اطراف الانقسام اهتماما وطنيا بقدر الاهتمام بالحسابات الضيقة.

قبل شهرين ونصف كتبت مقالا بعنوان " عافية غزة ضمانة للمشروع الوطني الفلسطيني " للتأكيد ان تجاوز آثار المحرقة الصهيونية الأخيرة بحق قطاع غزة أصبحت ضرورة لاستمرار المشروع الوطني الفلسطيني, والانطلاق من قاعدة ان العدوان الصهيوني قد جب كل مواطن الخلاف بين حماس وفتح واحدث ثورة حقيقية في العمل الجمعي الفلسطيني, لقد احدث الاصطفاف الرائع لأهلنا في الضفة والقدس واراضي الــ 48 مع غزة ضد العدوان آثارا ايجابية على المناخ السياسي الفلسطيني كان يجب ان تتخذ منه فتح وحماس الفرصة للتجاوز وتغيير العناوين الفصائلية الفرعية الى عنوان واحد وهو الهم الوطني العم والواحد, وهذا لم نلمسه حتى الآن واقعا على الأرض بل العكس عدنا الى الخلاف والاختلاف وتبعيض المشروع الوطني الفلسطيني, وكل فصيل لسان حاله يقول انا فلسطين وفلسطين انا فقط!!.

غزة تصرخ لا تجعلونا مضربا لنيرانكم تسابقوا لنصرتنا وعززوا ثقافة الجماعة حتى ننقذ انفسنا وننقذ وطننا العربي.