خبر مبادرة تجميد القتال.. علي عقلة عرسان

الساعة 06:19 م|14 نوفمبر 2014

 

تجميد القتال، الهدنة المسلحة، وقف إطلاق النار.. كلها تعابير تعطي معنى واحداً يفيد "إعطاء وقت لعودة الاقتتال بعد أن يستجمع المتقاتلون قواهم"، وذاك يشبه استراحة المحارب.. وما يريده المبعوث الدولي لسورية ديمستورا من مقترحه " تجميد القتال التصاعدي" بمعنى الابتداء بحلب وعدم التوقف عندها، يدخل في هذا المعنى، ويرمي إلى إحداث اختراق في الوضع المستعصي على الحلول سعياً وراء بداية تفاهم، ولكن الهدف الأبعد الملح الذي يدفع المبعوث ومن بعثه إلى هذه الخطوة هو "تجميع من يعلنون أنهم يقاتلون الإرهاب أو سيقاتلونه في صف واحد"، أي محاربة داعش أولاً، وإعطاء أولوية لتنفيذ القرارين 2170 و 2178 والتحالف الأميركي يحتاج إلى قوة على الأرض لتخقيق نتائج ملموسة على الأرض، وهذه القوى يمكن أن تقوم بالغرض بتدخل جوي يساندها..

إن ديمستورا يحمل مبادرته ويسعى لكسب تأييد لها، وهي كما قال مبادرة الأمم المتحدة التي نتجت بعد تقديمه لتقريره في للهيئة الدولية في ٣٠/١٠/٢٠١٤ وكان لافتاً تأييد التحالف لها وترحيب أطراف دولية بهذا المسعى الذي لقي تفهماً واستعداداً للتعاون في دمشق وقالت أطراف من المعارضات السورية المعنية به، لا سيما في حلب، بأن هناك أربعة شروط لا بد من تحقيقها لكي توافق عليها؟! ولا أظن أنها يمكن أن تتمسك بشيء عندما يقرر ممولوها عدم التمسك به، فقرار المعارضات كما يقول معارضون من داخل كل منها رهن بمن يشغلها ويمولها ويأمرها، ولذلك يطوف ديمستورا على المعنيين مباشرة لكسب التأييد وضمان الموافقة على " تجميد للقتال في حلب".

المبعوث الدولي إلى سورية أطلق مبادرة لم يُرد أن يسميها هدنة بل فضل أن يبقي للأطراف المعنية بها تعلقهم بالسلاح، حيث أدرك أنهم لن يتركوه بسهولة ولن يسمح لهم بذلك ممن ذهبوا بعيداً في هذا الخيار المروع المدمر خيار الحرب، فسماها " تجميداً للقتال" في منطقة أولى، واختار حلباً لما لها ولما فيها.. وتلك المبادرة لا تخرج، بكل المفاهيم، عن كونها هدنة قد تنهار سريعاً وقد تُختَرق من هذا الطرف أو ذاك، وهي هشة وستبقى كذلك إلى مدى، وقد تصمد إذا ما عُززت بمساع جادة  وضغوط مؤثرة وإرادات مخلصة لعملية سلام وتفاهم تقود إليها ضرورات ونوايا طيبة ورغبة حقيقية في أن تضع الحرب أوزارها، ليتم التفات إلى الإنسان ومعاناته، وإلي المصالح العليا لوطن ينخرط أبناؤه في حرب مدمرة بالأصالة والوكالة، وتتقاتل على أرضه دول وتيارات دينية وعرقية ومذهبية وتنظيمات إرهابية واستراتيجيات دولية.. إلخ.

لا يمكن القطع بأن تلك المبادرة ستفضي بالضرورة إلى اتفاق وتفاهم بين النظام والمعارضات السورية على إنهاء الحرب وتغليب الحلول السياسية عبر التفاوض.. لكن تحقق أي خطوة تفضي إلى وقف للاقتتال في أي موقع من سورية ولأي زمن، هي خطوة مفيدة جداً، وفيها رحمة بالمدنيين الواقعين بين نيران المتقاتلين منذ سنوات، وتدخل ضمن الاعتبارات الإنسانية التي غالباً ما يتجاهلها من يشهرون السلاح ويغلّبون لغة الرصاص على لغة العقل.. فكيف إذا كانت تلك الخطوة تستهدف مدينة حلب التي عانت ما عانته، وخسرت ما خسرته، وهي درة من درر سورية النفيسة، بل ومن درر الحضارة العربية - الإسلامية والشرق كله.؟! 

الكل في سورية المعنية بالأمر، المكتوية بالنار، يشعر منذ زمن، بل وأيقن منذ زمن أيضاً، بأنه من الصعب تحقيق حسم عسكري للأزمة/الحرب، وأن الحل سياسي عبر التفاوض، وأن كل وقت يمضي معناه دم يسيل، وعمران يدمر، وشعب يعاني، وبلد يهدد بالانهيار.. وأن الوضع لم يعد يحتمل مزيداً من سفك الدماء ونشر الخراب والدمار وآلحاق المعاناة بالناس، لا سيما ممن هم مشردون في داخل الوطن وخارجه.. ونستثني من هذين "الشعور واليقين" وكلاء الحرب في الخارج ممن يبيعون ويشترون بالشعب والوطن، وتجار السياسة والمبادئ والبشر والأزمات والحروب ممن هم في الخارج والداخل، من السوريين أو غيرهم.. فأولئك يدخلون ضمن من يتاجر بالوطنية ويصرخ أكثر ليربح أكثر.. ولو زج الأمة كلها في أتون الحرب/الكارثة. كل من عدا أولئك يشعر بفداحة ما وصلنا إليه وبهول ما قد نصل إليه إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.. لكن الدوامات الدموية والسياسية والإعلامية والكلامية التي زجت الأطراف وبعض حلفائها في حرب مذهبية " سنية شيعية على الخصوص"، والتدخلات الخارجية التي شكلت جبهات واستقطابات وتحالفات لتصفية حسابات فيما بينها، في سورية على حساب شعبها ووجودها ذاته، والمكابرة القاصرة عن الرؤية التي تلجم العقل وتكاد تلغي الضمير لدى فئات وأشخاص، والمطالب المتبادلة لكل فريق من المتقاتلين وأكثرها مما يُستنبت في الظلم والتمييز والقهر والدم والعنف، والخسائر الفادحة بالأرواح والممتلكات والماديات والمعنويات التي لحقت بالجميع، ويُستنفَر باسمها الكل ضد الكل، من خلال منظور ثأري تحكمه العنجهية والرغبة العارمة في الغلَبَة والإخضاع وحتى المحو، والحقد المتبادل الذي أخذ مناحي عرقية وطائفية وفئوية وشخصية، وفتح أبواب الإرهاب والفتنة على مصاريعها في أوساط لا تأخذ بالوسطية ولا تقبل الآخر واعتادت على آن تلحق بغيرها الأذى والقهر وتمارس خروجاً مطلقاً على القانون والخُلق وأبسط مبادئ المواطنة والانتماء.. ووجود أشخاص وجهات تتنطع للزعامة وتتاجر بالناس ولا يعنيها إلا ما تكسب وما تنهب.. كل ذلك جعل ويجعل أشخاصاً في المواقع الملتهبة يركبون رؤوسهم ويمضون إلى مزيد من الاقتتال طلباً لحسم عسكري يقولون هم، استناداً لتجربة السنوات المرة، إنه شبه محال.

يروج المتفائلون لمبادرة المبعوث الدولي، ويرون أن مواجهة الإرهاب تستدعيها وتساهم في القبول بها ليتفرغ المعنيون على الأرض لمواجهة الإرهاب ومن هو وافد على إلى الأرض باسم محاربة الإرهاب..؟! ولمن يريذ أن يستعيد بعضاً من وقائع الماضي القريب أو يشاء أن يتذكر نقول إنه في جنيف ٢ طلب الوفد السوري الرسمي أن تتجه كل الأطراف المشاركة في التفاوض إلى محاربة الإرهاب أولاً، لأن ذلك هو المدخل السليم إلى مناخ يساعد على التفاوض من جهة ويجعل السوريين وحدهم يقررون مصيرهم على أرضهم، من دون تدخل خارجي أو ضغط من أي نوع، ويمهد لخروج المقاتلين غير السوريين جميعاً من سورية من جهة أخرى، وهو أمر مطلوب.. لكن ذلك المقترح رُفض من المعارضات المشتركة في المؤتمر الذي فشل واتهم كل طرف الآخر بإفشاله.. لقد رأت المعارضات في ذلك المقترح حرباً عليها باسم الإرهاب حيث اتهمت بممارسته، وقرأ معارضون وأصدقاء لهم وبعض المحللين أن في ذلك ألغاماً يضعها وفد النظام في المسار لتفجيره أو على الأقل لحرف مساره حيث يفضي إلى تجاوز المطالب الرئيسة للمعارضة المسلحة، ومدخلاً لإضعافها ولإدانتها بإرهاب شاركت فيه، بدليل أنها "دخلت، تدخل" مع النظام في جبهة واسعة لمواجهة منظمات وقوى كانت معها في خندق واحد ويسمي النظام كلّ من هم فيه إرهابيين؟!.. اليوم وبعد المواجهة مع داعش، بوصفها تنظيماً إرهابياً حسب قرار مجلس الأمن الدولي، واستنفار " أصدقاء سورية لمحاربة داعش والنصرة تحت هذه الصفة؟!"، والتوجه الأميركي نحو التعاون مع من يختارونه بوصفه "معارضة معتدلة" تُسلَّح وتُدرَّب وتُدعَم لتحارب الإرهاب وتسيطر على الأرض التي يُطرَد منها، أصبح التعاون مطلوباً بين النظام ومعارضات تحت مسوِّغ محاربة الإرهاب، وأصبح كل منهما تحت تأثير العجز عن الحسم المسلح للصراع وفداحة الخسائر، وبتأثير القوى الخارجية مستعداً أو شبه مستعد للقبول بصيغة "تجميد القتال" الميستورية على أنه فرصة لمحاربة عدو مشترك يلتقي على محاربته النظام ومعظم المعارضات والتحالف الأميركي و" أصدقاء سوري؛؟!" و.. و.. والكل يبطِن شيئاً ويظهر شيئاً، ويرى نفسه مستفيداً بالتوجه نحو محاربة داعش، ومن بعد القضاء عليها لكل حادث حديث.. ولكل حساباته وأهدافه واستراتيجيته وأسبابه التي تجعله يقبل بذلك الخيار الذي تتمخض الأحداث والآراء والاتصالات عن تفاصيله وفرص نجاحه شيئاً فشيئاً، وترافقه توقعات ومساعِ لعقد جنيف ٣ بعد التلميح إلى توافق الأميركيين والروس على ذلك.

إن عدم التوصل إلى هكذا اتفاق مازالت ترفضه المعارضات الموجودة في حلب حتى الآن، لن يجعل السويدي ديميستورا يملك مزيداً من الجرأة على تقديم مبادرات من هذا النوع، واقتحام مواقع غير حلب التي يقترح أن تكون الموقع الأول الذي يتم فيه تجميد القتال.. ويبدو أن هذا غير مقبول أممياً.. ولما كان المقترح الديمستوري شبه دولي، ومرحب به من الدولة السورية، ومن أهدافه محاربة داعش على الأرض بمقاتلين سوريين، " حيث الجيش العربي السوري وبعض المعارضات والتحالف الأميركي في خندق واحد عملياً، من حيث الهدف والنتيجة؟!".. فإنني أظن أنه سينجح ولو بصعوبة، لأنه يآتي في نطاق استراتيجية غربية - صهيونية - عربية نسبياً، أشرت إليها عدة مرات في مقالات منشورة في هذا المنبر، وهي العمل على إفناء أكبر قدر من السوريين، وإضعاف سوررية وتهميشها إلى أبعد الحدود، وضرب دول المنطقة وقواها الحية بعضها ببعض، وإضعافها بأيدي أبنائها وبأيدي عرب ومسلمين يقتلون عرباً ومسلمين في "حرب الكل على الكل"، التي تموَّل عربياً وإسلامياً وتستنزف الثروة والطاقة في بلدان عربية وإسلامية تملك الثروة والطاقة، وتنشر بين شعوب المنطقة ودولها صراعات تمتد زمانياً ومكانياً.. و" حرب الكل على الكل"، تلك ستمكن كيان الإرهاب الصهيوني من أن ينفرد بالمنطقة ويهيمن عليها كأقوى قوة فيها، فيفرض ما يريد من حلول وتصفيات ومعاهدات " سلام الاستسلام"، ويسيطر على مصادر الطاقة " النفط والغاز" في الساحل الشرقي للبحر الإبيض المتوسط ويستثمرها لمصلحته وهي التي تعود للبنان وفلسطين وسورية ومصر، ويجرد الفلسطينيين من معظم أرضهم وحقوقهم، وينهي المقاومة الفلسطينية، ويهوِّد ما يشاء كما يشاء ومتى شاء، ويحقق أهدافه في القدس والمسجد الأقصى من دون مقاومة.. لأن شوكة من يمكن أن يتصدون له تكون قد كسرت، وشمل العرب يكون قد تفرق أكثر وضعُفَ أكثر، وآصبحوا يتبادل كؤوس المنون في حلبة عداء وصراع دموي مفتوح على المدى تحت مسميات ومسببات لا تتوقف عند حد، وتفضي بهم إلى أحوال تطمئن أعداءهم وتقضي على هويتهم وتشوه ما تشوه من صورتهم وعقيتهم.

أتمنى أن تنجح أية مبادرة تهدف إلى وقف نزيف الدم وتبادل العنف في بلدي الحبيب سورية، البلد الذي ضاق شعبه بالعنف والدم، ولحقه من الدمار ما لا طاقة له به ولا يختمل عليه من مزيد، وأتمنى أن يتم أي تفاهم وأي قبول لأية مبادرات وجهود مخلصة ترمي إلى سلم واستقرار بإقبال السوريين على ذلك وقبولهم له، من دون أي تدخل حتى لا تبقى دوامة العنف مستمرة على هذا النحو أو ذاك، ويتحقق لأعداء سورية والأمة العربية ما يعملون على تحقيقه.. لكن لدي خشية حقيقية أرجو من كل قلبي أن تكون في غير محلها.. ومصدرها ما آراه وأسمعه وأتابعه من إصرار على قهر كل فريق للآخر وانعدام فرص الغفران في بعض الأنفس، وتغلغل الحقد والرغبة في الانتقام والحقد والشر في قلوب وأنس ليس لدى أشخاص بل لدى شرائح اجتماعية وطوائف وأعراق وفي مناطق، واستمرار قوى مسلحة ومؤثرة، حاكمة أو محكومة، على اتباع نهج مثير للغضب، لأنه لا يرى سوء ما فعل حتى الآن ولا يبدو أنه يرتدع أو يرعوي أو يتعلم مما حدث. وهؤلاء المسكونون بهذا النوع من المشاعر والمواقف والأفكار والرؤي أكثر من خطرين على غيرهم وعلى أي توافق وسلام قد يتم من دون تصفية قلوب، وأعادة حقوق، وإنهاء مظالم، ومعالجة ملفات قديمة وجديدة تحتاج معالجتها إلى فهم وعدل وحكمة، وإلى اعتراف بحق الإنسان الذي تم الجور عليه مهما تقادم الزمن على حقه والإساءة إليه، لا سيما في موضوع الدم والكرامة والتعذيب وسوى ذلك مما هو كثير.. وعلى رأس ما ينبغي أن يُعالج بحكمة وعدل وحس عالٍ من المسؤولية هو: تغيير السلوك الفوقي الانتقامي المريض الذي ينطوي على تعالِ فارغ من أي قيمة ومعنى، وعلى ادعاء أجوف وفوقية تغتصب جهد الآخرين ومالهم بالقوة وتعرضهم للرعب بسبب فساد ضمير وممارسات تنطوي على تجاوزات والأخذ بأقوال وتقارير هي افتراءات و تقرب من اشخاص باستحلاب ولاءات مما يخيف الناس وينمي الفساد والرعب بين العباد، وهو مما يندرج  من حيث الأداء والنتائج في باب القول المعروف" خَفْ ممن لا يخافُ الله". للأسف هناك فراغ وخواء وعجز ونوع من غباء يعبر عن نفسه باستغباء الناس واستخدام القوة ضدهم والادعاء الفارغ وتشويه الحقائق والأشخاص، واستغلال المواقع والعلاقات.. وكل هذا وسواه مما يتم بصورة أو بأخرى، يبذر في نفوس المتضررين منه والمتطلعين إلى كرامة وحرية وعدل ومساواة.. يبذر بذور الشر والحقد والكيد والفتك عند المقرة لا العفو عندها، مما تنطوي عليه الأنفس وتغيبه الأكباد وتنميه هناك ويبقى جمراً تحت الرماد.. ويشير إلى إمكانية عودة البلد والشعب، لا سمح الله، إلى دوامات العنف وشلالات الدم، أو إلى حالات من حالات القمع والطغيان بذريعة عدم تجدد العنف ونزف الدم.. وكل هذا مدمر للثقة ومؤسس لعدم الاطمئنان إلى مستقبل يستقر فيه الشعب والوطن على عهد عدل وبناء بحرية وأمان، وتطلع إلى ما هو الأفضل مما هو منشود.

إنا نأمل الخير.. والله غالب على أمره

دمشق في الجمعة، ١٤ تشرين الثاني، ٢٠١٤

علي عقلة عرسان