خبر في أن الوهن العربي أضعف الإنجاز الفلسطيني ..فهمي هويدي

الساعة 09:59 ص|26 أغسطس 2014

ـ السفير ـ

من مفارقات زماننا ان أكبر إنجاز عسكري حققته المقاومة تم في أسوأ ظروف عربية يمكن ان تخطر على البال.

(1)

لا أتحدث عن المآلات، لأن ملف الحرب لا يزال مفتوحاً، وانما أعني ما تحقق حتى الآن على الأرض. أدري أن الإنجاز لم يتحقق بالمجان، ولكن القطاع دفع ثمناً باهظاً له. لست غافلا عن دماء نحو 2100 شخص قتلوا بينهم 68 أسرة أبيدت عن آخرها، إضافة إلى عشرة آلاف و400 آخرين أصيبوا جراء القصف الإسرائيلي المجنون، كما ان نحو 900 منزل هدمت وتحولت إلى انقاض، غير آلاف المنازل التي تضررت بصورة أو بأخرى، كما ان نحو نصف مليون فلسطيني تشردوا وأصبحوا بلا مأوى. وهي الأرقام التي أعلنها «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان» قبل أيام قليلة (في 21/8). لكنني أفهم أن ذلك الانتقام لا يعد فقط أحد حلقات القمع والإبادة التي تمارس بحق الفلسطينيين منذ أربعينيات القرن الماضي، ولكنه أيضاً رد على الضربات الموجعة والمحرجة التي وجهتها المقاومة إلى إسرائيل بجرأة وقدرة على التحدي لم تألفها منذ تأسيسها في عام 1948. صحيح أن العمليات الفدائية الجسورة لم تتوقف منذ ذلك الحين، لكنني أزعم أن هذه هي المرة الأولى التي تتحدى فيها المقاومة الصلف والعربدة طوال نحو خمسين يوماً متصلة. وهو تحد تجاوز الصمود والدفاع إلى الهجوم والتصدي بالصواريخ. تلك التي استهدفت أهم المدن الإسرائيلية حتى أوقفت الطيران في مطار بن غوريون لعدة أيام، إلى جانب أن كثافة إطلاقها جعلت صفارات الإنذار تدوي أغلب الوقت في مختلف المدن، الأمر الذي دفع مئات الألوف من الإسرائيليين إلى الاحتماء بالملاجئ. وفي الوقت الذي هزت الصواريخ الفلسطينية نظرية الأمن الإسرائيلي واستدرجتها إلى ما يشبه حرب الاستنزاف، فإن الانفاق التي وصل بها الفلسطينيون إلى مشارف بعض المستوطنات سببت صدمة ليس فقط لسكانها الذين أصيبوا بالرعب ولكن أيضا لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي فوجئت بها، حتى اعتُبرت أحد مظاهر فشلها وعجزها عن تقدير مستوى القدرة العسكرية لدى الفلسطينيين برغم الحصار المحكم عليهم المستمر منذ نحو سبع سنوات.

(2)

نقطة الضعف الأساسية في الموقف الفلسطيني كانت غياب الظهير العربي. ذلك ان غزة حاربت وحيدة، على الصعيدين العسكري والسياسي. فلم يساندها نظام عربي ولا حتى الجماهير العربية، بمن في ذلك أغلب النخب والمؤسسات عالية الصوت. وفى حين قطعت بعض دول أميركا اللاتينية علاقاتها مع إسرائيل. وتعالت أصوات عدد غير قليل من الأكاديميين والفنانين في العالم الخارجي منادية بإدانة الوحشية الإسرائيلية، وفي حين خرجت 250 تظاهرة منددة بالعدوان في أوروبا وأميركا يوم 17/8، فإن الجماهير العربية غابت عن الساحة، إذا استثنينا ما جرى في الأردن والمملكة المغربية. وإذ فاجأتنا استقالة البارونة سعيدة وارسي وزيرة الدولة البريطانية لشؤون الجاليات من منصبها احتجاجاً على موقف حكومة بلادها، فلم نعرف أن مسؤولا عربياً واحداً عبّر بأية صورة عن احتجاجه على الصمت العربي.

صحيح أن مصر قدمت مبادرة لوقف القتال ودعت الجميع للقاء في القاهرة بعد ذلك. لكن المبادرة تجاهلت المقاومة الفلسطينية في البداية، وتمت بناء على أفكار قدمها السيد محمود عباس ومشاورات مع الجانب الإسرائيلي، في حين ان قيادات المقاومة علمت بأمرها من وسائل الإعلام. ولم يكن ذلك متأثراً فقط بموقف القاهرة من حركة «حماس» المتأثر بالصراع الحاصل في مصر بين السلطة القائمة و«الإخوان»، ولكنه كان أيضاً تعبيراً عن موقف أقرب إلى الحياد النسبي التزمت به مصر طول الوقت، آية ذلك ان البيانات التي صدرت عن القاهرة لم تشر مرة واحدة إلى العدوان الإسرائيلي، ناهيك عن الاحتلال الذي هو أصل المشكلة. وبالتالي لم تعبر عن أية إدانة له. وظلت بيانات الخارجية المصرية تتحدث عن العنف المتبادل والأعمال العدائية من الجانبين والعمليات العسكرية. وفي بيانين اثنين فقط، صدرا في 28/7 و1/8، أدانت مصر مرة «بكل ثقة» ومرة أخرى «بأقسى العبارات» استهداف المدنيين الفلسطينيين. وهو ما فهم منه انه غض للطرف عن الهدف الأساسي للغارات التي استهدفت سحق المقاومة وكسر إرادتها.

تحضرني في هذا المقام قصة لا بد أن تروى. وهي ان الرئيس جمال عبد الناصر حين قبل بـ«مبادرة روجرز» في العام 1970، التي استهدفت وقف أعمال الفدائيين في غور الأردن الموجهة ضد إسرائيل، (أيده في ذلك الملك حسين) فإنه تعرض لهجوم شديد وقاسٍ من قبل «منظمة التحرير». إذ أصدرت بيانات وصفت الموقف بأنه «مؤامرة» واعتبرتها من قبيل «الحلول التصفوية والاستسلامية». ولم يكن سهلاً آنذاك ان تطلق تلك الأوصاف على رجل بوطنية وكبرياء جمال عبد الناصر، لكن الرجل تنازل عن كبريائه ونسي الخصومة حين دخلت «منظمة التحرير» في صدام مع النظام الأردني الذي سعى آنذاك لإخراج المقاومة من الأردن، فيما عرف لاحقاً بـ«أيلول الأسود»، فتحرك بسرعة ودعا إلى قمة عربية في القاهرة لمساندة المقاومة وإخراجها سالمة من الأزمة. قبل أن يلقى ربه في نفس العام. وهي قصة تقدم نموذجاً للارتفاع فوق الخصومات مهما بلغ عمقها دفاعاً عن المصالح الاستراتيجية العليا، الأمر الذي صرنا أحوج ما نكون إليه في الوقت الراهن.

(3)

الموقف العربي الرسمي بدا بائساً ومحزناً. من ناحية لأن العدوان الإسرائيلي وقع في ظروف عربية نمت فيها نوازع الانكفاء والقطرية، الأمر الذي أدى إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية، حيث بدا كل بلد مشغولاً بهمومه الخاصة. من ناحية ثانية فإن حوادث القتل والدماء الغزيرة التي ظلت تسيل في غزة، لم تعد صادمة للرأي العام العربي. ذلك ان قتل 30 أو أربعين شخصاً يومياً أو حتى تدمير بيوت وأحياء بأكملها صار خبراً عادياً في سوريا والعراق وليبيا، وبدرجة أو أخرى في اليمن.

من ناحية ثالثة فإن الانقسام العربي، في غيبة «الربَّان» وانكفائه، كان له أثره الفادح في التشتت والانفراط الذي كانت له تداعياته الكارثية. وتمثل أخطر تلك التداعيات فيما فوجئنا به، حين اكتشفنا أن بعض الدول العربية أصبحت أقرب إلى المربع الإسرائيلي، في حين وقفت دول أخرى في صف إدانة العدوان ورفضه. واستغلت إسرائيل ذلك الموقف المحزن أسوأ استغلال. حين صارت تتحدث عن «تحالف» إسرائيلي عربي ضد المقاومة في غزة (قيل إنه ضد حماس) وأصبح ساستها وإعلاميون يروجون لمقولة استناد إسرائيلي إلى «شرعية عربية» في تعاملها مع ما وُصف بأنه «إرهاب فلسطيني»!. ليس ذلك فحسب وإنما عمدت إسرائيل إلى تسريب أنباء عن تعاون مخابراتي عربي ساعدها في العمليات والغارات التي قامت بها.

(4)

في هذه الأجواء طال أمد الحرب على نحو لم تتوقعه إسرائيل، التي لم تألف مواجهات تستغرقه هذه المدة، وهي التي اعتادت على الحروب الخاطفة والسريعة منذ تأسيس الدولة العبرية في العام 1948. كان وزير الدفاع موشى يعلون قد دعا سكان المستوطنات القريبة من غزة في البداية إلى الصبر لعدة أيام، لكن الأيام صارت أسابيع وهي الآن على وشك الدخول في الشهر الثالث. ورغم ان غزة دفعت الثمن الباهظ الذي سبقت الإشارة إليه، إلا أن الحرب أربكت القادة الإسرائيليين الذين لم يجدوا لها نهاية في ظل استمرار إطلاق الصواريخ الفلسطينية، وفشل حملة التدمير الإسرائيلية في إسكات المقاومة وإخضاعها. إزاء ذلك فإن المياه تتحرك الآن في الساحة الدولية ليس فقط لفك الحصار عن غزة، ولكن أيضاً لمحاولة التقدم باتجاه حل جذري للإشكال يفتح الباب لتنفيذ فكرة إقامة دولتين للشعبين العربي والإسرائيلي.

ذلك لا يلغي المبادرة المصرية بطبيعة الحال. لأن مصر موجودة في قلب المشكلة بأمر الجغرافيا على الأقل، وبرغم أي تغيرات تطرأ على اتجاهات الريح فيها. لكنه يطورها ويستثمر فكرة وقف إطلاق النار الذي دعت إليه المبادرة للذهاب إلى أبعد في التعامل مع الأزمة. صحيح أن المبادرة لم تحقق شيئاً حتى الآن، رغم ما قيل ذات مرة ان المفاوضات التي رعتها مصر بين الطرفين حققت إنجازاً شمل 95 في المئة من المشكلات العالقة، لكن تبين بمضي الوقت ان ذلك كان نوعاً من التمني لا علاقة له بالحقائق القائمة على الأرض. إذ ما عاد سراً ان إسرائيل لا تريد ان تقدم أي مقابل للمقاومة، وأنها تريد أن تفرض إرادتها بقوة السلاح، وكل ما قيل عن قبولها لمبادرة وقف القتال كان من قبيل التمويه والكذب. وهو ما فضحه مقال نشره قبل أيام موقع «ديلي بيست» الذي استحوذت عليه مجلة «نيوزويك»، وروى فيه مارك بيري أحد الخبراء الأميركيين تجربته الخاصة مع الإسرائيليين. حين كلف في شهر تموز عام 2002 بترتيب وقف إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين عقب الانتفاضة الثانية، وإذ عمل جاهداً لأجل ذلك، ولم يبق لإنجاز المهمة سوى الحصول على توقيع قائد كتائب القسام آنذاك صلاح شحادة على الاتفاق. ولكن قبل عشر دقائق من سريان وقف إطلاق النار ألقت طائرة إسرائيلية طناً من المتفجرات على مقر قائد القسام، فقتلته وأبادت إلى جانبه 14 شخصاً آخر. ثم قال له أحد الإسرائيليين وهو يحييه صبيحة اليوم التالي: انت لم تفهمنا جيداً، لأننا لم نكن راغبين في وقف إطلاق النار!

السيناريو تكرر هذه المرة، مع فرق أساسي هو أن إسرائيل فشلت في قتل قائد كتائب القسام محمد الضيف، لكنها قتلت زوجته وطفلتـه فقط. وفي الوقت الراهن فإن الملف لا يزال مفتوحاً، بعدما رفضت إسرائيل مشروعين قدمهما الوفد الفلسطيني لتثبيت الهدنة المقترحة. وهو ما أعاد الحـوار إلى نقطة الصفر مرة أخرى. الأمر الذي يستدعـي سيـلا من الأسئلة حول مآل المبادرة المصرية، وما يمكن ان تسفر عنه الجهود الأوروبية والأميركية، وحدود المرونة المتاحة أمام الوفد الفلسطيني الذي يصر على أن يكون فك الحصار بأية صورة هو الحد الأدنى للمقابل الذي يتوقعه الفلسطينيون بعد كل الذي جرى، ـ وحدها الأيام المقبلة التي ستجيب على تلك الأسئلة.